«الكتبة والمداحين وشيوخ الطوائف والبنائين والنحاسين»، وغيرهم الكثير من المهن التي اشتهرت في مصر خلال العصرين العثماني والفاطمي والذي سجلت الجدران والمساجد إبداعاتهم التي ظلت راسخة ومنقوشة عبر مئات السنين، وتأخذكم "البوابة" في رحلة طوال شهر رمضان المبارك وحديث حول تلك المهن وشيوخها وأسطواتها التي اشتهرت في مصر والعالم العربي، والتي لا يزال الكثير منها موجودا حتى عصرنا الحالي ومنها من اندثرت وأصبحت تراثا تشهد به جدران المساجد والقصور.
وعلى مدار الشهر الكريم نقدم لكم حرفة من الحرف التي اشتهرت في تلك الفترة واقفين أمام إبداعات فنانيها وقوانينها التي كانت تتوارث جيلا بعد جيل، وحكايات المعلم والصبي والأسطى الذي كان يعتبر رب المهنة.
في الحلقة السابقة ذهبنا سويا في رحلة عن الطوائف الحرفية في طائفة البناء والمعمار، والمعمار باشي شيخ المهندسين، وتطرقنا إلى كيف دخلت الآلات الحديثة إلى طائفة المعمار على يد الخديوي إسماعيل، وإحضار الخبراء المتخصصين في إدارة تلك الآلات وإحلال الطوب المصنوع محل الطوب الأحمر البلدي والطوب اللبن.
فقد عانت طائفة المعمار في تلك الفترة وبالتحديد في النصف القاني من القرن التاسع عشر من جراء تخسير الدولة للمعماريين الوطنيين في العمل بالسخرة بعمارتهم الكثيرة، حيث شهدت تلك الفترة الكثير من الإنشاءات، ولقد استخدمت الدولة الكثير من المعماريين في العمل لديها بأجور زهيدة لا تذكر كما في حال عمال البلاط المدنيين الذين فروا من مباني عباس باشا إلى الجبل الأحمر عام 1840، أو المبيضين الذين تظلموا للوالي سنة 1854 يشكون وكيل الميري الذي لم يعطهم أجورهم.
فلم يكن فرار المعمارجية الوطنيين إلا نتيجة للمعاملة السيئة التي عاملتهم بها الحكومة، فهي لم توفر لهم ضروريات الحياة، ولا المؤن اللازمة للأشغال طيلة النصف الثاني من القرن التاسع عشر، حيث باتت الحكومة تفضل الأجانب على المواطنين، وأعطتهم الحكومة معظم مقاولات البناء الكبيرة، وعلى الرغم من الأموال الطائلة التي كانوا يتقاضونها فكان يتم تفضيلهم عن المعماريين المصريين، وكان الأمر يحدث أيضًا مع طائفة صانعي الطوب، فلم يسلموا من منافسة الأجانب لهم، كما لم تسلم أيضًا منهم حرفة الحجارين وساءت أحوالهم بعدما تسلم منهم أكابر الأجانب زمام الأمور منهم واحتكروا عمليات البناء في المحروسة.
وكان المعمار باشا هو المسئول عن طائفة المعمارية، وهو رئيسها، وكان مقامه مقام كبير المعلمين، وفي العصر المملوكي كان "المعمار باشي" له مكانه عالية في المجتمع، لدرجة أن السلطان برقوق لم يجد غضاضة في مصاهرة كبير المهندسين "أحمد بن الطولون، فتزوج ابنته، وكان يتم اختيار المعمار باشي بواسطة الطوائف المعمارية وكان يتم اختياره بناءً على صفاته الحسنة، لدرجة أن أصحاب طوائف المعمارية كانوا يذهبون للقاضي ليتم تنصيبه شيخًا عليهم، شريطة أن يحترم القواعد والقوانين والسنة القديمة للطائفة.
وقد كان في القاهرة طائفة للمبلطين وبلغ عددهم 326، في القرن التاسع عشر، وكان شيخ الطائفة بالمحروسة هو الشيخ محمد محجوب محمد علي خلاف.
فقد كانت طوائف المعمار بشتى فروعها من نجارين وبنائين ومرخمين ومبلطين ومبيضي الحوائط "نقاشين" بأخذ مقاولات من الأهالي والحكومة، وقد زادت حركة البناء في تلك الفترة إلى حد كبير ما أدى إلى تعذر بعض المقاولين في إيجاد العدد الكافي من البنائين والنجارين لإنجاز عملهم ومواكبة التطور في حركة البناء في تلك الفترة.