هذه ليست قصة حياة، بل شهادة حية على مرحلة تاريخية مهمة، عشتُ فصولَها، انتصاراتهِا وانكساراتِها، حُلوَها ومُرَّها، اقتربتُ من صناع هذه الأحداث أحيانًا، وكنتُ ضحيةً لعنفوانهم في أحيان أخرى، معاركُ عديدة دخلتها، بعضُها أودى بي إلى السجون، لم أنكسر، ولم أتراجع عن ثوابتي وقناعاتي.
أروي هذه الشهادات، بصدق وموضوعية، بعضُ شهودها أحياء، والبعضُ رحل إلى الدار الآخرة، لكنَّ التاريخ ووقائعه لا تُنسى، ولا يمكنُ القفزُ عليها، وتزويرُ أحداثها.
1- مولود جديد لجيهان السادات
فى يوم الجمعة، السادس عشر من شهر أغسطس 1996كانت والدتي تزورني فى القاهرة، وقد اضطررت للسفر إلى بلدتنا «المعنا» لوفاة زوج خالتي.. رتبت العمل بشكل سريع فى جريدة «الأحرار» التي أترأس تحريرها، وغادرنا أنا ووالدتي وشقيقي محمود عبر مطار القاهرة إلى مطار الأقصر، ومن هناك استقلينا السيارة، والتي قطعت بنا المسافة بين الأقصر وقنا، والبالغة نحو 60كيلو مترا فى نحو الساعة.
كان اليوم هو الجمعة، ولم يتبق على صدور العدد الأسبوعي للصحيفة سوى يومين، حيث يصدر العدد الأسبوعي كل يوم «اثنين»، وقد عهدت بأمر إدارة العدد الأسبوعي للزميل الصحفي أسامة الكرم مدير تحرير العدد الأسبوعي.
قضينا ليلتي الجمعة والسبت وحتى منتصف نهار الأحد فى واجب العزاء، كعادة أهل بلادنا حين يتوفى عزيز لدينا، ثم عدنا إلى القاهرة فى وقت متأخر من مساء نفس اليوم، وعند صباح اليوم التالي الاثنين 19 أغسطس، كنت أقرأ صحف الصباح، وفى مقدمتها «الأحرار الأسبوعي»، والتي كان مانشيتها الرئيسي يحوى عنوانا مثيرا وهو «بمستندات كاذبة.. مولود جديد لجيهان السادات من شاب غير متزوج»، وأذكر يومها اتصال شقيقي محمود بي في هذا الوقت المبكر من الصباح، وتعليقه على هذا الموضوع، حيث أشار إلى أنه، وعلى الرغم من أن الموضوع هو عبارة عن مغامرة صحفية مثيرة، وتناول السيدة جيهان السادات، وزوجها الراحل بالثناء والتقدير، إلا أن المتربصين بنا، وبمواقفنا الوطنية، وحربنا على الفساد، سوف يستغلون هذا التحقيق، ويفرغونه من مضامينه، ويشوهون معانيه، وأهدافه، ومراميه، حتى يتحقق لهم هدفهم فى إخراس صوت مصطفى بكرى، وقصف قلمه.
لقد سعينا منذ اللحظات الأولى أن نقطع الطريق على المتربصين، والنافخين فى الكير، وبدأت محاولاتنا بنشر اعتذار فى الصفحة الأولى من صحيفة الأحرار، في اليوم التالي مباشرة، الثلاثاء 20 من أغسطس 1996 بعنوان «الأحرار لم تقصد الإساءة للسيدة جيهان السادات»، جاء فيه ما نصه: نشرت صحيفة الأحرار بالأمس موضوعا عن تزوير المستندات الخاصة بالشهادات الصادرة عن السجل المدني، وقد قام محرر الموضوع بنشر مستند حصل عليه بناء على طلبه، وهو مستند كاذب خاص بالسيدة جيهان السادات، ولم تقصد الجريدة بأي حال من الأحوال الإساءة للسيدة جيهان السادات، بقدر ما حاولت أن تكشف إمكانية التزوير، حتى لوكان متعلقا بشخصية في وزن السيدة الفاضلة جيهان السادات، والصحيفة لم تقصد قط الإساءة إلى حرم الرئيس الراحل، ولكن أرادت كشف عيب من العيوب الموجودة داخل مؤسساتنا التنفيذية، والمرتبطة بمصالح المواطنين».
كان الصحفي أحمد فكري، المحرر بجريدة الأحرار، قد قام بمغامرة صحفية مثيرة، حيث توجه إلى مكتب صحة حلوان "ثان" يوم27 يوليو 1996، مدعيا أمام «جمال زكى جرس» الموظف المختص باستخراج شهادات الميلاد، بمكتب الصحة أنه أنجب طفلا من السيدة «جيهان رؤوف صفوت»، وأطلق عليه اسم «شريف»، والأكثر إثارة أنه تمكن، وللمرة الثانية من إدخال بيانات، حسب رغبته، على شهادة الميلاد المزورة.
راحت قوى عديدة تستغل موضوع جيهان السادات أسوأ استغلال، وكان في مقدمة هؤلاء «سمير رجب» رئيس مؤسسة دار التحرير، والذى انتهز الفرصة ليصفي حسابات قديمة معي، خاصة وأنني سبق وأصدرت كتابا في العام 1992، وبعد الأزمة العاصفة لصحيفة وحزب «مصر الفتاة» بعنوان «ظاهرة سمير رجب - قصة الصعود والسقوط»، وكان هناك أيضا طلعت السادات والذي أراد استغلال القضية لمصلحة نفسه على حساب السيدة جيهان السادات.
كان من الوسائل التي لجأ إليها سمير رجب في هذا الشأن، هي سعيه إلى التخلص مني نهائيا، عبر شطبي من جداول القيد بنقابة الصحفيين، حتى يضمن عدم عودتي مرة أخرى إلى صفوف نقابة الصحفيين، بعد أن تسببت مرارا فى كشف ألاعيبه، وقطع الطريق أمام أطماعه، وفي هذا راح يوعز للمقربين منه بإعداد قائمة من التوقيعات على مذكرة من العاملين في مؤسسة دار التحرير، التي يترأسها، تتضمن مطلبا بشطبي من عضوية النقابة، وبحيث يتم تقديمها لمجلس نقابة الصحفيين، وهدد سمير رجب كل من يعترض على التوقيع بالعقاب الصارم.
2 - الصيد في الماء العكر
أما طلعت السادات فقد أراد الصيد في الماء العكر، حيث بعث إلى صحيفة الأحرار يوم الاثنين 19 أغسطس 1996، وهو ذات اليوم الذي نشر فيه التحقيق الصحفي، ردا مليئا بالبذاءات منه، حمل توقيعه «منصبًا نفسه محاميًا عن السيدة جيهان السادات».
لم يكتف طلعت السادات بنشر رده كاملا فى الأحرار، بل راح ينتقل بالمعركة إلى صحيفة مايو، والتى يترأس تحريرها سمير رجب، حيث نشرت فى عددها الصادر في 26 أغسطس1996 تحقيقا على صفحتها الحادية عشرة، واصل فيه هجومه على، وعلى صحيفة الأحرار، وفى اليوم التالي 27 أغسطس نشرت صحيفة «الميدان» تحقيقا موسعا على صدر صفحتها الثالثة، امتلأ بالمغالطات واللغة التحريضية ضد الأحرار، وقبلها بأيام، وبالتحديد فى الحادى والعشرين من أغسطس، أي بعد نشر رده بيوم واحد، تقدم طلعت السادات ببلاغ للنائب العام المستشار رجاء العربى، اتهمنى فيه، وكذلك المحرر أحمد فكرى بالسب والقذف، والتعرض لحرمة الحياة الخاصة لحرم الرئيس الراحل أنور السادات، وعلى الفور أحال النائب العام، البلاغ إلى نيابة أمن الدولة العليا للتحقيق فيه، وذلك فى يوم 24 أغسطس 1996، وأمر المستشار هشام سرايا المحامى العام لنيابة أمن الدولة، بالتحقيق فى البلاغ فى السادس والعشرين من أغسطس.
كان إيقاع الأحداث بالغ السرعة، وهو ما دفع بصحيفة الأحرار لأن تصدر بيانا، ردا على سيل التحركات والاتهامات، التى راحت تنطلق، ونشرت البيان فى صدر صفحتها الأولى فى يوم الأربعاء 28 من أغسطس 1996.. جاء فيه ما يلى:
«منذ أن نشرت صحيفة الأحرار فى عددها الصادر يوم الاثنين قبل الماضي، تحقيقا حول عمليات تزوير الشهادات التي تجرى فى مكاتب الصحة، واتخاذ اسم السيدة جيهان السادات، كنموذج على المدى الذى يمكن أن يصل إليه التزوير فى بلادنا.. وحملة مسمومة تدبرها فى الخفاء القوى المعادية لحرية الصحافة فى البلاد، وهى ذات القوى التي ناصرت قانون اغتيال حرية الصحافة البغيض رقم 93، لسنة 1995، فقد استغلت تلك القوى نشر هذا التحقيق في محاولة للإساءة.. لا لصحيفة الأحرار فحسب، بل لمهنة الصحافة كلها، والدليل على ذلك أن صحيفة الأحرار، التى نشرت هذا التحقيق فى عدد الاثنين قبل الماضي، في غياب رئيس التحرير، الذى كان يؤدى واجب التعزية فى وفاة أحد أقاربه فى محافظة قنا، كانت لديها الجرأة في الاعتذار الفوري عما نشر فور عودة رئيس التحرير، حيث نشر اعتذارا واضحا».
في صدر الصفحة الأولى فى اليوم التالي مباشرة الثلاثاء، وأشار الاعتذار إلى أن نشر الموضوع لم يستهدف إطلاقا الإساءة للسيدة جيهان السادات.
ونشرت الأحرار، فى اليوم التالي الأربعاء ردا تلقته من المحامي طلعت السادات، تضمن سبا وقذفا، يخضع لطائلة القانون، وكتبت أنا في عدد الجمعة مقالا في الصفحة الأخيرة بعنوان «جيهان السادات» قلت فيه: «إن السيدة جيهان السادات جزء من تاريخ مصر، لا يستطيع أحد أن ينكره، وهي تحمل إسما لرئيس راحل، حكم مصر على مدى سنوات»، وقلت: «لقد آلمني كثيرا أن الموضوع لم يفهم مقصده وهدفه، وأن بعض عواجيز الفرح راحوا يشرحون الأمر للسيدة جيهان على أنه حملة ناصرية، تستهدف شخصيتها وسمعتها.. وأنا شخصيا، أنأى بنفسي أن يكون ذلك هو المقصد، فالسيدة جيهان السادات لها احترامها وتقديرها لدى الكثير من الناس.. ومن هنا أقول، أنني وبكل جرأة، أبدى للسيدة جيهان السادات اعتذاري الشخصي عن هذا الألم الذي سببه الفهم الخاطئ للموضوع الذي نشر على صفحات الأحرار، والذي لم يقصد به سوى الدلالة على التزوير الذي يجرى في مثل هذه المكاتب»، ومضيت أقول: «أؤكد من جديد، احترامنا وتقديرنا لمشاعر السيدة الكريمة، وتقديرنا لشخصيتها، ودورها الاجتماعي على مدى سنوات طوال، ولا يمكن بأي حال من الأحوال أنني كرجل شرقي وصعيدي، أو أي زملاء يمكن أن نسيء إلى سيدة، أو نستخدمها كسلاح في حملة صحفية تحت أي غرض، وتحت أي مسمى، وليس من عاداتنا، ولا من شيمنا الخوض في الأعراض».
وقال البيان الصادر عن الأحرار: «هذا ما كتبه رئيس تحرير الأحرار بعد أن حدث ما حدث في غيابه، فقد اعتذر صراحة للسيدة جيهان السادات، وعبر عن تقديره الكامل لها، ولعل ذلك كفيل بإخراس تلك الألسنة الحاقدة، التى تصطاد فى الماء العكر، وراحت على مدار اليومين الماضيين تحرض ضد حرية الصحافة، وضد جريدة الأحرار، التى تؤكد مجددا التزامها بميثاق الشرف الصحفى، وكافة الأعراف والتقاليد الصحفية».
وعلى الرغم من كل التوضيحات التى قدمت، إلا أن الصراع انتقل إلى مرحلة جديدة، اتخذت لها محورين.. المحور القانونى، متمثلا فى التحقيقات التى جرت فى البلاغ المقدم من طلعت السادات إلى النائب العام، والذى أحاله بدوره إلى نيابة أمن الدولة العليا التى تولت التحقيق، والمحور الآخر، هو تلك الحرب، والتى تجمعت فيها رموز الفساد من كل حدب وصوب، مستهدفة قصف قلمي، وإبعادي عن رئاسة تحرير الأحرار، وهو إجراء مريب، اتخذه مصطفى كامل مراد فى ليلة التاسع والعشرين من أغسطس 1996.. وهو تطور خطير، سبقته، وتلته، كواليس وأسرار، شكلت دلالة واضحة عن أبعاد، وخفايا ما حدث.
كنت قد تعرضت خلال تلك الفترة لوعكة صحية، أودعت على أثرها بالعناية المركزة لمدة أربع وعشرين ساعة بمستشفى السلام الدولي بالمعادي.. كانت تلك هى المرة الأولى التي أنقل فيها للعلاج بإحدى المستشفيات، بعد أن تعرضت لمتاعب فى القلب، استدعت نقلى للمستشفى فى منتصف الليل.. وقد سبق ذلك شعور متزايد بالإجهاد، يعود فى بعض أسبابه إلى الجهد الذى بذل فى أزمة جريدة الأحرار، وكذلك مواجهتي للعديد من رموز الفساد، والذين راحوا يستغلون موضوع جيهان السادات، لتصفية حساباتهم معي.
زارني المئات من المحبين والأصدقاء، وعلى رأسهم د إسماعيل سلام وزير الصحة فى ذلك الوقت، والذى كان يتابع حالتي بنفسه، وأيضا جاء مصطفى كامل مراد، رئيس حزب الأحرار لزيارتى مساء يوم الاثنين 26 أغسطس 1996، حيث اندمج فى حوار طويل مع المستشار جابر ريحان المدعى العام الاشتراكي، والذى تصادف قيامه بزيارتي فى الوقت نفسه.
كان مصطفى كامل مراد، كعادته، ودودا فى حديثه، وكلماته عن دوري فى تحقيق حلم عمره، بتحويل الأحرار الأسبوعية إلى صحيفة يومية ناجحة، وبأقل الإمكانيات.. وتطرق الحديث معه إلى أمور كثيرة، ومن بينها قضية جيهان السادات، فحين تطرق الأمر اليها، قال بلغة حاسمة: "إن الأمر انتهى بالاعتذار الذى قدم لها على صفحات الجريدة"، ثم انصرف مودعا، وهو يدعو لي بسرعة الشفاء، والعودة لمزاولة عملي بالصحيفة.
وحسب نصيحة الأطباء، فقد كان من المقرر أن أتوجه، وبصحبة أفراد أسرتي إلى العريش فى الساعة الرابعة من فجر يوم الخميس، لقضاء فترة نقاهة، بعد الوعكة الصحية التي ألمت بي، ويبدو أن تسرب هذا الموعد دفع بالمتآمرين لتحديد ساعة الصفر لتنفيذ مؤامرة جديدة ضدي.. فمنذ الساعة السابعة من مساء يوم الأربعاء 28 من أغسطس 1996، بدأ تليفون منزلى، وتليفونات صحيفة الأحرار تتلقى اتصالات من مجهولين، تعطى رسالة قصيرة ومحددة، مضمونها أن مصطفى كامل مراد قرر إبعاد مصطفى بكرى من رئاسة تحرير صحيفة الأحرار، وتعيين صلاح قبضايا رئيسا جديدا للتحرير.. لم يصدق أحدنا الخبر فى بداية الأمر، ولكن تكراره بإصرار، ثم تساؤل عدد من الصحفيين والشخصيات العامة عن مغزى الخبر الذى بدأ ينتشر بقوة، دفعنا للاهتمام به، والسعي لمعرفة ماوراءه.
فى ذلك الوقت، كان مصطفى كامل مراد قد توجه إلى شقته بالإسكندرية، بعد أن عقد اجتماعا مع قيادات الحزب ظهر ذلك اليوم، حيث استثمرت تلك العناصر قضية جيهان السادات لتصفية حساباتها معي، خاصة وأننى تعاملت معهم طيلة فترة رئاستي لصحيفة الأحرار وفقا لمعايير محددة، رافضا أساليب البعض منهم فى استخدام الصحيفة لتحقيق أغراضه الشخصية، واستغل هؤلاء تحقيقا نشرته صحيفة «العالم اليوم» عن قوة مصطفى بكرى، ونفوذه، وجماهيريته فى حزب الأحرار، فى محاولة لتحريض مصطفى كامل مراد ضدي، بزعم أنني أصبحت مؤهلا بالفعل للسيطرة على الحزب.. لم تكن تلك إلا أكاذيب سخيفة، إلا أن الرجل أرخى أذنيه هذه المرة لدعاة التآمر، ووقع أسيرا لأحقادهم، والتي ساعدته فى القبول بالتضحية بمن كان يصفه منذ أيام قليلة بأنه فى مرتبة «الابن» لديه..
لم نذق طعم النوم طيلة هذه الليلة، بعد أن هبت رياح الخسة والندالة، وبدت فى الأفق معالم مؤامرة يجرى تنفيذها فى سرية وتكتم شديدين.. وطيلة الليل لم يتوقف رنين الهاتف، ليؤكد لحظة بعد أخرى، بحقيقة المؤامرة وتفاصيلها.
كنت فى هذه الفترة قد بدأت، وبناء على تكليف من مصطفى كامل مراد، فى التخطيط لقيادة حملة تطهير ضد الصحف الصادرة عن حزب الأحرار، وكنت أعتزم مطالبة تلك الصحف بتقديم كشوف حساباتها كاملة عن مواردها، ومصروفاتها، حتى يتأكد الحزب من سلامة الموقف المالي لكل منها، مما سيضع الحزب فى موقف سليم لدى تقديم كشوف حسابات تلك الصحف إلى الجهاز المركزي للمحاسبات.. ويبدو أن بعض من تعج صحفهم بالمخالفات استشعروا خطورة ما أفعله، ولذلك بادروا بالتحرك سريعا لإجهاض قرار التفويض الذى اتخذه مصطفى مراد سرا فى هذا الشأن، ولما فشلوا فى إفراغه من مضمونه، راحوا يمارسون ألاعيبهم القذرة ضدى.
3- تجمع الكارهين
كان يوم الأربعاء 28 أغسطس 1996، يوم تجمع الكارهين، جاءوا إلى الاجتماع، والحقد يقطر من قلوبهم على تجربة الصحيفة وجعلها رقما يصعب تجاوزه، ومعى كوكبة من الشباب المخلصين.. جاءوا مسلحين بقصاصات الجرائد، وأعداد صحيفة الأحرار التى حملت أسماء الزائرين لمصطفى بكرى فى المستشفى، وكان لسان حالهم جميعا يقول «إن بقاءه يعنى نهايتهم»، ويبدو أن مصطفى كامل مراد قد خدعه كلام مريديه هذه المرة، وسقط فى حبائلهم، فانعقدت إرادة الحقد التى جمعتهم على اتخاذ قرار بإعفائى من رئاسة تحرير صحيفة الأحرار، وتعيين صلاح قبضايا رئيس تحرير «الأحرار الأسبوعية» فى بداية صدورها، رئيسا بديلا للتحرير.
كان المجتمعون يدركون أننى لن أستسلم بسهولة لهذا القرار، ولذا اتفقوا على ترك موعد إعلان القرار بيد مصطفى كامل مراد وحده، لقد كان باديا أن روح الانتقام منى سيطرت عليه، وراح يتخذ قراره، دون مراعاة لأى شىء.. وكان التصرف الأكثر حماقة، هو تحديده وآخرين لساعة «الصفر» فى تنفيذ مخططهم فى ذات اللحظة التى كنت سأغادر فيها القاهرة إلى العريش مع أفراد عائلتى، لأقضي فترة من النقاهة هناك بناء على تعليمات الأطباء.. حيث كشف هذا الاختيار لتوقيت تنفيذ القرار طبيعة هؤلاء الناس.
فى مساء هذه الليلة الفاصلة - ليلة الأربعاء - ربطت شبكة اتصالات ثلاثية، بينى وبين شقيقى محمود بكرى وعبد الفتاح طلعت مدير تحرير صحيفة الأحرار اليومى، كان خبر إعفائى من رئاسة التحرير يتراوح بين الحقيقة والشائعة، ولكن تنفيذه اتسم بالخداع، فحين اتصلت بمصطفى كامل مراد، للاستفسار حول حقيقة هذا الخبر، قال لى: «كيف أعزلك، وأنت لا تزال مريضا، ثم إنك فى مرتبة الإبن مني»، وبالرغم من هذا الكلام، إلا أن ذلك لم يبدد القلق الذى تسرب حول صحة الخبر.
ظلت الأمور غامضة حتى الساعة الرابعة إلا ربع من فجر يوم الخميس 29 أغسطس 1996، حيث تلقى شقيقى محمود بكرى اتصالا هاتفيا من الزميل عبد الفتاح طلعت مدير تحرير الأحرار، يبلغه فيه إن صحيفة «الأخبار» نشرت فى صدر صفحتها الأولى نبأ إبعاد مصطفى بكرى وتعيين صلاح قبضايا رئيسا لتحرير الأحرار، هنا أيقنت أن الخبر صحيح تماما، وانفراد صحيفة «الأخبار» دون غيرها بنشر الخبر، يعنى التحقق من صحته.. وفى تلك اللحظات رحت أتصل بمصطفى كامل مراد على تليفونه الأرضي بالإسكندرية، إلا أن هاتفه لم يرد مطلقا.
قررت فى هذه اللحظات إلغاء زيارتي العائلية إلى العريش، وجاءنى شقيقي محمود إلى منزلى بالمعادي خلال دقائق من تأكدنا من الخبر، وحين ركبت معه السيارة، وكنت متجهما مما سمعته، نظر إلى بتفاؤل، وقال كلمة لازلت أتذكرها «لا تحزن يا أخي على غدرهم.. فرب ضارة نافعة»، ويبدو أن الله كان يرسم لنا طريقا آخر فى مسيرتنا الصحفية، وأراد لنا الخروج عنوة من أزمة «الأحرار» لنطلق بعد بضعة أشهر صحيفتنا المستقلة «الأسبوع».
ما حدث من غدر، لم يكن سوى البداية فى حرب المواجهة، والتى جرت فصولها فى الأيام التالية، وكانت حديث الشارع المصري برمته، بل وانتقل صداها إلى وسائل الإعلام العربية، والتى راحت تتابع تفاصيلها لحظة بلحظة.. بدأت حرب المواجهة منذ اللحظة التى تأكدت فيها من صحة القرار، لأنه صدر غدرا، ودون تحقيق أومساءلة، ولم يتضمن أية مبررات.. وكان ترك القرار يمر هكذا دون مقاومة، يعنى ترك المجال لأصحاب الصحف من رؤساء الأحزاب، وغيرهم، لكى يتلاعبوا بمصائر الصحفيين، ويتعاملوا معهم وفقا لأمزجتهم الخاصة، وعلاقاتهم بهذا الشخص أو ذاك، بل وكان يعنى تمرير القرار دون رد فعل مناسب، بما يعنى أن حرية الصحافة برمتها معرضة للذبح على مذبح الأحزاب، بل يحق لرؤساء الأحزاب، وغيرهم، أن يقدموها قربانا لأصحاب المصالح والنفوذ.
تداعى الصحفيون، والعاملون بصحيفة الأحرار لرفض القرار، بعد أن أدرك الجميع أن القرار ليس موجها إلى شخص مصطفى بكرى، بقدر ما هو موجه إلى صحيفة «الأحرار»، فى عهدها الجديد، والذى تحولت خلاله إلى صوت للفقراء والمحرومين ومن لاصوت لهم.. كانت وقفة الصحفيين الأبطال منذ اللحظات الأولى بحجم التحدي الذي فرض عليهم، فقد توجهوا منذ الرابعة صباحا إلى مقر الصحيفة الكائن بـ"58 شارع منشية الصدر بكوبرى القبة" وسرعان ما سيطروا على المقر بأكمله، وبدءوا فى إصدار البيانات التي تكشف عن تفاصيل المؤامرة وتؤكد رفضهم قرار إبعادي عن رئاسة التحرير.
من جانبي، رحت أجرى اتصالاتي مع عدد من كبار المسئولين بالدولة، لأطلعهم على أبعاد القرار الباطل، وأؤكد أن الصحفيين والعاملين قرروا الاعتصام بالمقر، وأنه لن يسمح لكائن من كان بدخول المقر، أو اقتحامه، وأن أية محاولة ستجرى من هذا النوع، سوف تقابل بالرد الفورى، والقوى.. ومع انبلاج ضوء الفجر، وإشراقة الصباح، كانت أعداد غفيرة من قوات الأمن، تساندها العربات المصفحة بمقر الصحيفة، وتعلن سيطرتها على المنطقة.. وكان مما ساعدنا على السيطرة على مقر الصحيفة دون مقاومة، أن المخططين للمؤامرة، لم يحكموا خطوات تنفيذها.. فقد كان مقررا وفقا للاتفاق أن يستعين رجب هلال حميدة ببعض العناصر للسيطرة على المقر قبل علمنا بالخبر، ولكن حميدة لم ينفذ ماطلب منه، وراح فى نوم عميق، وحين أيقظوه، كان كل شيء تحت السيطرة فى المقر.
تلقى رجب هلال حميدة فاصلا من النقد من مصطفى كامل مراد، لتقاعسه، وقد أجرى معه اتصالا من الإسكندرية، عنفه خلاله على عدم مبادرته باحتلال مقر الصحيفة، قبل السيطرة عليه من أنصارنا.. وقد حاول فيما بعد أن يستعيد ثقة مصطفى كامل مراد به، فتوجه فجأة بمجموعة من العناصر التابعة له، إلى مقر الصحيفة بكوبرى القبة، حيث ألقوا الحجارة على المقر، وحاولوا اقتحامه، إلا أن محاولتهم باءت بالفشل، وردوا على أعقابهم خاسرين، وهى تطورات دفعت بقوات الأمن، بقيادة اللواء محمود وجدى مدير مباحث العاصمة، واللواء إسماعيل الشاعر نائب مدير المباحث، للتوجه لمقر الصحيفة، حيث حررا محضرا بحادث الاعتداء، وتابعا الموقف المتأزم عن كثب.
وعلى مدار ساعات النهار، جرت مفاوضات مكثفة، طرفاها، أنا من جهة، ورجب هلال حميدة من جهة أخرى، وكان الوسيط فى هذا أيمن نور، عضو مجلس الشعب فى ذلك الوقت عن دائرة باب الشعرية، حيث حاول التوصل لحل وسط، إلا أن محاولته تلك باءت بالفشل.
تحول مقر صحيفة الأحرار إلى مسرح للعمليات، فأغلقت الطرق المحيطة به من كل اتجاه، ورحنا نستعد لإصدار عدد صحيفة الأحرار من مقر مركز النيل للصحافة والنشر، والذى أسسه شقيقى محمود بالعنوان «20 شارع عدلى - الطابق السادس»، حيث كان من مفارقات القدر أن يستأجر المكتب من السيدة عايدة على حجازى، وهى والدة الدكتور محمد البرادعي الذي كان يعمل فى وكالة الطاقة الذرية فى هذا الوقت، وهو المقر الذى كان يستخدمه والده مصطفى البرادعى، والذي كان نقيبا للمحامين، كمكتب للمحاماة، لقد كان يتم نقل الأخبار والموضوعات عبر خطوط الهاتف والفاكس لصدار العدد الجديد من المقر الخاص بالصحيفة للمقر الجديد، حيث تم الانتهاء من تجهيز عدد الصحيفة، والذى حمل رقم «1709» عند الساعة السادسة مساء، بتاريخ 30 أغسطس1996.. وكانت صفحات العدد تحمل عنوانا رئيسيا، هو «قصة الخيانة»، حيث نشرت الصحيفة التفاصيل الكاملة التى وقفت خلف المؤامرة على صحيفة الأحرار ورئيس تحريرها.
ولدى توجه الزملاء المكلفين بالطباعة بالصحيفة إلى مؤسسة الأهرام، رفضت المؤسسة فى البداية الطباعة، فاستمرت المحاولات حتى منتصف الليل، حيث وافقت الأهرام أخيرا على الطباعة فجر يوم الجمعة، وبدأت الطباعة فى نحو الثالثة صباحا، إلى مابعد الفجر، وكانت الكمية المطبوعة من الصحيفة 60 ألف نسخة.
فى هذا الوقت، كانت هناك معركة من نوع آخر تدور رحاها داخل مبنى مجمع محاكم الجلاء بوسط القاهرة، بعد أن تقرر التحقيق فى الاتهامات والمحاضر المتبادلة فى ذات الليلة.. حيث انتقلت منذ التاسعة مساء إلى مبنى النيابة، وتم الاستماع إلى أقوالى، وتم أيضا سماع أقوال ممثل الحزب، الذى جاء متحدثا بلسان حزب الأحرار.. وقد استمرت التحقيقات مع الطرفين حتى الساعة الثانية والنصف صباحا، وفى نهايتها إتخذ رئيس النيابة قرارا ببقاء الوضع على ماهو عليه، لحين عرض الأمر على النائب العام يوم السبت31 من أغسطس.. وفور انتهاء التحقيقات انتقل رئيس النيابة إلى مقر الصحيفة بكوبرى القبة، حيث أجرى معاينة للموقف على الطبيعة، بينما كانت هتافات الصحفيين المعتصمين تخرق السكون المخيم على منطقة كوبرى القبة فى تلك الساعة المتأخرة من الليل.. وقد اعتبر الصحفيون أن بقاء الوضع على ماهو عليه بمثابة انتصار، ولوجزئيا فى معركتهم الباسلة ضد القرار الظالم.
ومنذ فجر الخميس، لم يذق أحد منا طعم النوم، أوالراحة.. وذلك لشعور الجميع بالقهر، وبرغم التعب الذى حل بهم، إلا أنهم كانوا على استعداد لمواجهة كافة الاحتمالات، وبدأوا بروح الفريق الواحد يوزعون الأدوار على بعضهم، تحسبا لطول أمد المواجهة.. وما أن بدأ نهار يوم جديد، حتى كانت أيادى القراء تتلقف أعداد صحيفة الأحرار برئاسة تحرير مصطفى بكري لتقرأ على صفحاتها الخفايا الكاملة لقصة الخيانة، وكان من الأمور المثيرة للعجب فى ذلك اليوم أن القراء شاهدوا طبعتين لصحيفة «الأحرار»، واحدة برئاسة تحرير مصطفى بكرى، والأخرى برئاسة تحرير صلاح قبضايا رئيس التحرير الجديد، الذى عينه مصطفى كامل مراد.. كانت مواقف الصحيفتين متناقضة لأبعد حد، واستمر هذا الحال على مدار يومى الجمعة و السبت.
4- المؤتمر الطارئ
كانت الاستعدادات جارية يوم الجمعة 30 أغسطس لعقد المؤتمر الطاريء لحزب الأحرار الذى كنت قد دعوت إليه ردا على قرار مصطفى كامل مراد بعزلى، خاصة بعد أن تلقيت عشرات البرقيات من أمناء حزب الأحرار بالمحافظات تعلن جميعها رفضها للقرار الظالم، وتؤكد تأييدها فى أية خطوات أتخذها لمواجهة هذا القرار.
منذ الصباح الباكر، تدفقت الجماهير على مقر حزب الأحرار، الذى اكتظ بطابقيه، العلوى والسفلى بالصحفيين، والمواطنين، ولم يعد هناك موطيء قدم لأحد.. رنين الهاتف لا يتوقف، ووكالات الأنباء والصحف تلاحق المعركة من داخل مقر الصحيفة أولا بأول، بينما العمل يجرى على قدم وساق لإصدار العدد الجديد من صحيفة الأحرار.. كان اليوم هو يوم الجمعة، وقد آثر الحاضرون إقامة الصلاة داخل مقر الصحيفة.. كان المشهد بديعا فى هذا اليوم، امتلأت الساحة الداخلية عن آخرها بجموع المصلين الذين أدوارالصلاة بروح مليئة بالإيمان، وراح الخطيب يدعو بالنصر والمؤازرة لنا فى معركتنا.. وبعد أن فرغ المصلون من صلاتهم، بدأت وقائع الموتمر العام الطاريء، والذى قدم له الصحفى عبد الناصر زيدان، وقاد الهتافات خلال أعماله الصحفى هشام جاد، وتحدث فيه كل من جمال علم الدين أمين حزب الأحرار بملوى، ومرتضى أبو عقيل أمين حزب الأحرار بسوهاج، وآخرون.. وخلال المؤتمر تليت برقيات تأييد أمناء الحزب بالمحافظات، ممن لم يتسن لهم الحضور إلى القاهرة، لضيق الوقت.
تحدثت فى ختام المؤتمر إلى المجتمعين، مشيرا إلى أنه يعز على الوقوف هذا الموقف بعيدا عن الاستاذ مصطفى كامل مراد الذى أحببته، وقلت: «كم كنت أتمنى أن تسير الأمور طبيعية، ويعيش مراد بقية عمره بعيدا عن الهموم.. فمنذ أيام كان يزورنى ويشيد بالجريدة، وفجأة ينقلب الحال.. كيف يحدث ذلك؟.. وكيف نفرط فى مصالح الوطن والناس؟.. والجميع تساءلوا عن مبررات هذا الانقلاب السريع، ثم تبين أن هناك مؤامرة بالفعل».
وسط هتافات حوالى 535 عضوا، حضروا المؤتمر، تم إنهاء أعماله، حيث أعقب ذلك المسارعة لتجهيز العدد الجديد من صحيفة الأحرار، والذى صدر يتاريخ السبت 31 أغسطس1996، حاملا عنوانا رئيسيا، وهو «وانتصرت إرادة الأحرار» حيث رصد العدد جميع التفاصيل، وتطورات اليوم السابق.. وما حدث يوم الجمعة، تكرر يوم السبت، بصدور صحيفة الأحرار بطبعتين متضادتين، حتى أن الصحف المصرية، والعربية، تناولت الأمر باهتمام كبير، باعتباره الحدث الأول من نوعه الذى تشهده صحافة مصر.
5- النائب العام يتدخل
كانت التطورات المتلاحقة تتواصل، حيث تحولت الأزمة إلى حديث رجل الشارع فى مصر، بعد أن راحت الصحف تتابع بدقة تطوراتها المتلاحقة، وتنشر أخبارها بشكل بارز فى صفحاتها الأولى.. ومع شروق نهار السبت31 من أغسطس كان الجميع يترقب حسم الموقف فى هذا اليوم، حيث علمنا قبل الظهر أن مصطفى كامل مراد، وبصحبته رجب هلال حميدة توجها إلى مكتب النائب العام رجاء العربى فى مكتبه بدار القضاء العالى، وتحصلا منه على قرار بتسلم مقر الصحيفة، والذى كان لا يزال حتى تلك اللحظة تحت سيطرة أنصارنا، فيما انتقلت فى هذا اليوم إلى مقر مركز النيل للصحافة، لإدارة المعركة من هناك.
كان قرار النائب العام بتسليم مقر الصحيفة للسيد مصطفى كامل مراد، يعنى أن المواجهة سوف تكون بيننا وبين مؤسسات الدولة، وهو أمر لم نتعود عليه من قبل، لاحترامنا لأجهزة ومؤسسات الدولة، مهما كانت درجة الخلاف مع قراراتها.. وهكذا اتفقنا على الالتزام بقرار المستشار النائب العام، وتم تكليف مدير التحرير عبد الفتاح طلعت بتسليم المقر، ومحتوياته، بما فيها وحدة الكمبيوتر كاملة، والمطبعة إلى اللجنة المشكلة من نيابة، وقسم شرطة حدائق القبة.. جاءت خطوتنا التزاما بالقانون، ومع ذلك، جوبهنا بمعارضة العديد من الزملاء لقرار تسليم المقر، ولكننا ألزمناهم باحترام قرار النائب العام، وتنفيذه دون إحداث أية مقاومة.
وكان من المفارقات التى حدثت فى ذلك اليوم، هو ما أقدم عليه أحد الزملاء الصحفيين، والذى جاء إلى مركز النيل، بشارع عدلى، محرضا على ضرورة الخروج فورا لاحتلال مقر حزب الأحرار الرئيسي بعابدين.. رحنا نتساءل عن أسباب هذا التفكير، قال: «ذلك ضرورى للرد على خطوة تسلم مقر الصحيفة بكوبري القبة.. ثم اكتشفنا أن هذا الصحفى يلعب دورا لتوريطنا بارتكاب خطأ ضد القانون، وهو أمر بعيد عن ممارساتنا، فأهملنا طلبه بعد أن تكشف أمره، وتبين حقيقة أهدافه ومراميه».
وعلى مدار الأيام القليلة بعد الأزمة، راحت تتكشف العديد من الأمور.. فتحت الصحف الموالية لمصطفى مراد أبوابها لكل من كشفتهم، وانتقدتهم.. أصبح طلعت السادات ضيفا دائما على مقر الحزب والصحيفة، حتى أصبح عضوا بالحزب، وأمينا للدعوة والفكر، ثم مالبث أن ظهرت نياته الحقيقية بعد وفاة مصطفى كامل مراد، حين راح يتصارع على رئاسة حزب الأحرار، وراحت الصحيفة، والتى طالما وجهت انتقادات حادة ضد منافسى فى الانتخابات البرلمانية، تستضيفه على صفحاتها، وتفسح له المجال ليرد على كل ما أثير ضده.. ومن جملة هذه الانقلابات التى طالت كل شيء، أن أصبح سمير رجب رئيس مجلس إدارة دار التحرير، والذى خضت معه مواجهات ساخنة، أصبح هو نجم صحيفة الأحرار فى عهدها الجديد، حتى إنه تكفل بطباعة صحيفة الأحرار فى مطابع المؤسسة، وتحولت الصحيفة وفى هذه الفترة إلى ما يشبه الملحق لصحف دار التحرير.
وبعيدا عن الرموز المعادية التى وقفت مع المؤامرة، كان التطور الأخطر هو تبدل الموقف السياسى للصحيفة، فيما يتعلق بالموقف من «إسرائيل» والولايات المتحدة الأمريكية.. فلم تكد تمضى أيام قليلة على إبعادى من رئاسة تحرير صحيفة الأحرار، حتى قام المستشار الإعلامى للسفارة الأمريكية بالقاهرة بزيارة لمقر «الأحرار» والالتقاء بالعاملين فيها، كما فتح المستشار الإعلامى للسفارة الإسرائيلية خطا مباشرا مع أحد الموظفين، والذى أصبح له شأن فى تسيير أمور الصحفيين بالجريدة بعد إبعادى.. لقد أعمى الحقد هؤلاء، حتى أنهم أصبحوا يشيدون بإسرائيل وسياساتها، دون التنبه إلى أنهم وضعوا أنفسهم فى مستنقع يصعب خروجهم منه بعد ذلك.
كان لهذا التحول تأثيره الكبير على الصحيفة فى الشارع، حيث تقلص توزيعها اليومي، إلى درجة أنها لم تعد توزع أكثر من بضع مئات من النسخ، وأصبح القراء يترحمون على الأيام التي كنا ندير فيها صحيفة الأحرار، بعقلية الصحفي، وليس بعقلية أخرى.
6- بدء التحقيقات
فى 7سبتمبر حددت نيابة أمن الدولة العليا موعد التحقيق معى فى قضية جيهان السادات، ذهبت إلى مبنى النيابة فى مصر الجديدة فى الموعد المحدد، كان قرار سابق من النيابة قد صدر بحبس الصحفى أحمد فكرى وموظف صحة حلوان جمال زكى جرس 15 يومًا على ذمة التحقيق، بدأ المستشار على الهوارى رئيس نيابة أمن الدولة العليا التحقيق معي في الحادية عشرة صباحًا، حيث نفيت كافة الاتهامات الموجهة ضدى، وقلت أن التحقيق الصحفي لم يعرض على لسفري إلى بلدتي قنا فجر السبت 17أغسطس 1996، لحضور عزاء زوج خالتي وقدمت ما يثبت ذلك من تذكرة السفر وتلغرافات العزاء.
كان قد حضر معي العديد من المحامين منهم الأساتذة محمد الدماطي وعلى عبد العزيز وسمير الباجورى وحسن يوسف المحامين.
وبعد انتهاء التحقيقات صدر قرار الاتهام فى القضية فى يوم 17/10/1996، حيث تمت الإحالة إلى المحاكمة بقرار من المحامي العام لنيابة أمن الدولة العليا المستشار هشام سرايا ضد
- أحمد فكرى أبو الحسن متهم أول.
- جمال زكى جرس منصور متهم ثان.
- محمد مصطفى بكرى وشهرته (مصفى بكرى) متهم ثالث.
لقد جاء صدور أمر إحالتى إلى محكمة أمن الدولة العليا للمحاكمة فى قضية جيهان السادات ليكشف الغربان السوداء المتربصة بكل صاحب موقف، فقد تعاملت بعض الصحف، خاصة صحيفة «الأخبار»، مع القضية.. وكأنها قضية «إرهاب»، لدرجة أنها أفردت مساحات واسعة فى صدر صفحتها الأولى، وعلى مدار أيام، لتنشر بمانشيتات كبيرة أنباء إحالة «بكري» للمحاكمة، حتى أن بعض المسئولين والمواطنين، عبروا عن دهشتهم لهذا التوجه، معتبرين أن النشر بهذه الطريقة- غير المعتادة- يحمل طياته تطورات خطيرة يمكن أن تشهدها المرحلة التالية.
ولم تكن صحيفة «الأخبار» هى الوحيدة التى انتهجت هذا الخط، بل شاركتها صحف أخرى حزبية وحكومية، وكان من اللافت للإنتباه أن د.صلاح قبضايا رئيس تحرير «الأحرار» رفض نشر أية أخبار عنى، وقد برز موقفه هذا بعد أزمة «الأحرار» بأيام قليلة، وهو في كل الأحوال موقف يحسب له.
لقد طالت فترة الانتظار ما بين قرار الإحالة للمحاكمة الذى أصدره المستشار هشام سرايا يوم السابع عشر من أكتوبر1996، وبدء المحاكمة التي عقدت أولى جلساتها يوم العاشر من إبريل1997، حيث عقدت المحكمة ثلاث جلسات متتالية، قبيل أن تحجز الدعوى للحكم فى الحادي عشر من أغسطس1997.
وقد انبرت هيئة الدفاع عن المتهمين في تنفيذ أمر الإحالة، والاتهامات الموجهة إلىّ على وجه الخصوص.
ترقبت أوساط متعددة ما سيصدر عن محكمة أمن الدولة العليا من حكم فى قضية جيهان السادات، فعلى مدار عام كامل استحوذت القضية على اهتمامات قطاعات واسعة من المصريين، الذين التبس على بعضهم مغزى ما نشر بعد حملة التشويه التى قادتها بعض الصحف ضد مصطفى بكرى، كما أن بكرى ذاته رفض الدفاع عن نفسه فى صحيفته الجديدة «الأسبوع» احترامًا وتقديرًا لقضاء مصر العظيم صاحب القول الفصل فى القضية.
كانت بعض خفافيش الظلام لا تزال تأمل فى صدور حكم ضار بمصطفى بكرى، فقد أزعجهم النجاح الذى أحرزته «الأسبوع»، وأثار قلقهم هذا الاهتمام المتزايد فى الأشهر التى تلت صدورها، بعد أن ظننوا أنهم حققوا بغيتهم فى وقت سابق يوم أبعدوه عن «الأحرار»، وعطلوا قلمه من متابعة قضايا وهموم الوطن لستة أشهر كاملة.
وبين جلسة 10 من يوليو يوم حجزت القضية للحكم، وجلسة النطق بالحكم ذاتها فى الحادى عشر من أغسطس، كانت قلوب الشرفاء تتساءل، والقلق يساورها عن الحكم المرتقب صدوره.
كانت ثقتنا بعدالة القضاء المصرى أكبر من أية شكوك يمكن أن تساورنا، بالرغم من محاولات البعض تسييس القضية، وتحميلها أكثر مما تحتمل والإدعاء بأن جهات عليا تبدى اهتمامًا بها، وإن إحالتها لمحكمة أمن الدولة العليا استهدفت إرضاء السيدة جيهان السادات التى أزعجها ما نُشر.
هذه الشائعات التى تكاثر الحديث بشأنها لم تفقدنا الثقة بأن المسئولين فى الدولة قد عاهدوا أنفسهم منذ زمن بعيد على ألا يتدخلوا فى شئون القضاء، كما أن قضاءنا العظيم لا يقبل تدخل أحد فى شئونه، وأن أحكامه تستند إلى ضمائر قضاته واحترامهم القانون والعدالة كأساس وحيد للحكم.
ومنذ صباح يوم الاثنين 11أغسطس تدافعت حشود غفيرة من مواطنى حلوان والمناطق الأخرى من أنصار مصطفى بكرب إلى قاعة الدائرة السابعة بمحكمة الجنايات- أمن دولة عليا- بجنوب القاهرة، وذلك لسماع الحكم فى القضية.
وعند الساعة الحادية عشرة صباحًا أعلن المستشار صلاح عبد الباري رئيس المحكمة منطوق الحكم، والذي قضى ببراءة مصطفى بكري مما نسب إليه من اتهامات، وكذلك براءة موظف مكتب صحة حلوان جمال زكي جرس، بينما عوقب الزميل أحمد فكري بالحبس لمدة سنة مع وقف التنفيذ.
فور صدور الحكم، عمت الفرحة جماهير حلوان وقنا، والكثير من المناطق التي تابعت القضية على مدار العام، وازدحمت كل خطوط التليفونات بالتهاني، بينما تدفقت البرقيات من كل حدب وصوب.
وفي المساء انطلقت مسيرات في بعض مناطق حلوان تعرب عن بهجتها بالحكم التاريخي، وأطلق المواطنون الرصاص فى الهواء ابتهاجًا، وقرر اللواء عبد الوهاب عطية صاحب مدارس اللواء الخاصة بحلوان الدعوة إلى احتفال جماهيري واسع بهذه المناسبة السعيدة.
لقد أسقط الحكم المؤامرة التي حيكت قبل نحو العام، وأسقط معها كل الأباطيل التي رافقتها، ووضع رموز الفساد في موقف لا يحسدون عليه، فانزووا في أركان بعيدة غير قادرين على الكلام أو الفعل.
بالحكم الذي صدر ببراءتي في القضية أرخى الليل سدوله على واحدة من أشرس المعارك وبدأ صبح جديد لوقائع معركة، لا تزال ممتدة.
جاء ذلك، في الحلقات التي ينشرها «الجمهور» يوم الجمعة، من كل أسبوع ويروي خلالها الكاتب والبرلماني مصطفى بكري، شهادته عن أزمات وأحداث كان شاهدًا عليها خلال فترات حكم السادات ومبارك والمشير طنطاوي ومرسي والسيسي.
اقرأ أيضاً
شهادات وذكريات.. يرويها مصطفى بكري: من الأحرار اليومية إلى سجن الجمالية!!شهادات وذكريات.. يرويها مصطفى بكري: تجربتي مع الحزب الناصري.. صراعات وأزمات
شهادات وذكريات.. يرويها مصطفى بكري: مصر الفتاة وكشف المستور
شهادات وذكريات.. يرويها مصطفى بكري: الصحافة والحكومة وسمير رجب