رغم إعلان رئيس الوزراء عن وقف هدم مقابر الإمام الشافعي، ما زالت تثار العديد من الأسئلة حول مستقبل هذه المنطقة التاريخية. فقد أكد رئيس الوزراء على احترام الدولة للمباني ذات القيمة التاريخية، مشيرًا إلى أن أي تجاوزات سابقة لن تتكرر في المستقبل. ومع ذلك، يأتي هذا القرار كخطوة متأخرة، إذ تم العبث بالفعل في منطقة تُعد بمثابة متحف مفتوح، ليس فقط بسبب معمارها الفريد، بل أيضًا لأنها تضم شخصيات بارزة من مختلف المجالات، تركت بصمة واضحة في تاريخ مصر.
ورغم أن أعمال الهدم قد توقفت مؤقتًا، لا يزال التساؤل قائمًا: ماذا بعد؟ فقد شهدت عمليات الهدم عودة بعد فترة من التوقف، حيث بدأت البلدوزرات تجتاح مقابر السيدة عائشة والتونسي، بينما تم تفكيك المآذن التاريخية تمهيدًا لإعادة تركيبها عقب إنشاء الطرق المزمع إنشاؤها. يبقى الرهان الآن على كيف ستتجه الأمور في المرحلة المقبلة، ومدى التزام الدولة بحماية هذا الإرث التاريخي الثمين.
قرار رئيس الوزراء يجعلنا نتوقف طويلًا أمام جملة اعتدنا سماعها عند إثارة قضايا سوء الترميم أو هدم مبنى له قيمة جمالية وتراثية أو تجديد مسجد بشكل يغير من معالمه، فإضافة إلى المصير المجهول الذي يحيط بما تم هدمه بالفعل من المقابر التاريخية، بكل ما فيها من قطع ثمينة دهستها بلدوزرات الهدم، سنكتشف أن جملة "غير مسجل كأثر" هي الجملة التي تُلقى في وجوه من يطالبون بوقف نزيف التراث أو وقف عشوائية التعامل معه.
كانت العبارة نفسها الرد الفوري الذي قيل عند الكشف عن بدء هدم قبة مستولدة، محمد علي، وعند هدم المقابر التراثية، وعند الاعتراض على طلاء أسدي قصر النيل بالورنيش، فعلى الرغم من أن الأسدين قطعتان فنيتان قيمتهما الفنية لا ينكرها أحد، وتم تركيبهما عام 1886 أي أن عمريهما الآن يقترب من 140 سنة، إلا أن مسئولي الآثار لم يعتبروهما آثارًا ولم يتم تسجيلهما في ظاهرة ليست جديدة.
ومع ذلك، فهذه العبارة لا يمكن اعتبارها دالة على انعدام الأثرية، وهو ما تكشّف في الأزمة التي فجّرها هدم المقابر التراثية بالقاهرة، وهو ما أكده الأمين العام لـ«المجلس الأعلى للآثار» سابقًا الدكتور محمد عبد المقصود الذي قال إنه: "صدر قرار عن المجلس عام 2015 يقضي بعدّ منطقة الجبانات بالكامل منطقة أثرية، بما تحتويه من مدافن ومبانٍ ومقتنيات، لكنه لم يُنفَّذ رغم عدم صدور قرار جديد بإلغائه".
وتصبح الكارثة مزدوجة عندما نعلم أن القاهرة التاريخية بما فيها جباناتها هي إحدى أهم وأكبر المدن التراثية الحية المسجلة على قائمة التراث العالمي منذ عام 1979، وهي بذلك مدينة لا يمكن المساس بأبنيتها، أو أضرحتها وشوارعها ذات الخصوصية التاريخية، ووفقًا لموقع اليونسكو، فإن القاهرة هي إحدى أقدم المدن الإسلامية بجوامعها، ومدارسها، وحماماتها وينابيعها.
تأسست القاهرة الإسلامية في القرن العاشر، واستحالت مركز العالم الإسلامي الجديد، وبلغت عصرها الذهبي في القرن الرابع عشر، ووفقًا لوزارة السياحة والآثار المصرية، تتميز المدينة بتنوع وثراء مبانيها الأثرية والتاريخية، وتتفرد المدينة بالحفاظ على حدود وتخطيط شوارعها القديمة وحاراتها وأسواقها التاريخية حتى الآن!
يؤكد رئيس مركز التراث الإسلامي، الأستاذ الدكتور صالح لمعي، الخبير الدولي في مشروعات اليونسكو سابقًا، أن القاهرة سجّلت في معايير القيمة الاستثنائية العالمية، وقد سجلت تحت 3 بنود أساسية (1، 5، 6). البند (1) يحدد أنها تمثل إحدى روائع العقل البشري المبدع، والبند (5) وفيه أن يكون هذا المكان يقدم نموذجًا بارزًا لمستوطنة بشرية تقليدية، أو لأسلوب تقليدي لاستخدام الأراضي أو استخدام البحار يمثل ثقافة أو ثقافات معينة، ويمثل التفاعل بين الإنسان وبيئته، ولا سيما عندما يصبح عرضة للاندثار بتأثير تحولات لا رجعة فيها.. البند (6) يكون مقترنًا على نحو مباشر أو ملموس بأحداث أو تقاليد حية أو بمعتقدات أو مصنفات أدبية أو فنية عالمية بارزة، ويؤكد "لمعي" أن المدافن نوع من التقاليد الحية.
وأضاف د.صالح لمعي: هناك خريطة توضح حدود ممتلكات التراث العالمي التي اعتمدت من اليونسكو من مناطق القاهرة التاريخية في مناطق جامع ابن طولون والقلعة والقاهرة الفاطمية والجبانة الشمالية، وخريطة توضح حدود الممتلك العالمي لمنطقة الفسطاط الأثرية التي تم عمل حديقة عليها، مؤكدًا أن هناك اتفاقيات وقعت عليها مصر وهناك خطورة من الإخلال بتلك المواثيق.
يؤكد أستاذ الآثار الإسلامية، الأستاذ الدكتور محمد الكحلاوي، رئيس المجلس العربي لاتحاد الآثاريين العرب، أنه أثار قضية هدم المقابر في اجتماع المجلس الأعلى للتخطيط والتنمية العمرانية الذي حضره رئيس الوزراء منذ بضعة أيام، وناصره أعضاء اللجنة. وأشاد الكحلاوي بموقف وزير السياحة والآثار الذي دعم بقوة وقف أعمال الهدم، وهو ما استجاب له رئيس الوزراء.
وأوضح أن مقولة هذا الموقع ليس مسجلًا في عداد الآثار "شماعة غير مقبولة"، لأن هذه المقابر أول مقابر إسلامية في إفريقيا، ومن يقلْ إنها غير مسجلة ينبغِ أن يُحاسب، لأن السؤال يصبح: لماذا لم تقم بتسجيلها، خاصة وأن هناك قرارًا بالفعل من سنة 2015 بتسجيلها؟ ويصبح السؤال أيضًا: لماذا لم يتم تنفيذ هذا القرار؟!
وقال إن رئيس الجمهورية كان قد أوقف العمل بناءً على خطاب تم إرساله له، لكن يبدو أن هناك يدًا طويلة أعادت أعمال الهدم مرة أخرى. وتساءل الكحلاوي عما إذا كان لا يتم تسجيل الآثار حتى لا تتكلف الوزارة عبء الترميم وتترك الترميم للمحافظين؟ مشيدًا بالموقف المجتمعي الذي وقف وقفة جادة للحفاظ على تراثه، وأن استمرار هذه العمليات كان يمكن أن يؤدي إلى قيام اليونسكو برفع القاهرة من التراث العالمي، ويكفي أن نشاهد الميكروباصات تقف الآن في السيدة عائشة مكان المقابر التراثية التي تمت إزالتها لنعرف كيف تم إتاحة القبح مكان التاريخ والجمال.
وأكد الكحلاوي أن خريطة ترسيم القاهرة في عام 2007 تشتمل على 5 مناطق رئيسية: المنطقة الأولى هي منطقة جامع عمرو ومجمع الكنائس، والثانية هي منطقة الحفائر، والثالثة هي جبانة الإمام الشافعي التي تقلصت مساحتها، ثم مدافن السيدة نفيسة التي تم إزالة مئات المقابر منها لتطوير المزارات، ومنطقة جبانة المماليك، وهي منطقة من أغنى المناطق التراثية، والتي أصبحت نتيجة إطلاق العشوائيات آيلة للسقوط لتأثير المساكن المحيطة بها في الأرض بسبب الصرف.
يشير أستاذ الآثار الإسلامية بكلية الآثار جامعة عين شمس، د.حسام إسماعيل، إلى إن لدى مصر قانونين هما: قانون الآثار وقانون التنسيق الحضاري رقم 144 لسنة 2006، وهو قانون تم إصداره وقت تسجيل القاهرة التاريخية في اليونسكو بعد أن أثيرت أزمة تعدد الجهات المشرفة على الآثار، والمفترض أن قانون الآثار يحدد تسجيل المباني التي بُنيت لأكثر من مائة سنة، لكن للأسف يتم التسجيل "بالمزاج". فمثلًا، تم تسجيل معهد الموسيقى العربية، ومجلس الشعب والقصور الأثرية، وهي كلها بُنيت في عهد الملك فؤاد، وقد تم تشكيل لجان واشتركت في لجنة محافظة القاهرة وبورسعيد، وكنا نسجل المباني في النصف الثاني من القرن التاسع عشر لنصف القرن العشرين وما يتعلق بالشخصية التاريخية الخاصة بثورة 1952، وكان من بين ما تم تسجيله القرافات المختلفة والمنطقة المسماة بمنشأة ناصر "قرافة المماليك" والجزء الثاني كان خاصًا بجنوب القاهرة من قرافة سيدي جلال الدين السيوطي وحتى منطقة سيدي عقبة، وتم بالفعل تسجيل هذه المناطق!
لا يمكن تسجيل كل مبنى مرّ على إنشائه مائة عام، حيث يوضح القانون رقم 117 لسنة 1983 لحماية الآثار أنه يعد أثرًا كل عقار أو منقول توافرت فيه الشروط الآتية: أن يكون نتاجًا للحضارة المصرية أو الحضارات المتعاقبة أو نتاجًا للفنون أو العلوم أو الآداب أو الأديان التي قامت على أرض مصر منذ عصور ما قبل التاريخ وحتى ما قبل مائة عام، وأن يكون ذا قيمة أثرية أو فنية أو أهمية تاريخية باعتباره مظهرًا من مظاهر الحضارة المصرية أو غيرها من الحضارات الأخرى التي قامت على أرض مصر، والذي تم تعديله بالقانون رقم 91 لسنة 2018.