سيظل طه حسين محل دراسة الأجيال إلى أبد الأباد، وكلما دخل باحث عالمه سيجد فيه جديدًا لم يقال وقديمًا من الضرورة أن يُعاد، فأمثال عميد الأدب العربي "فلتات" وظواهر لا تتكرر، ومع كل المحاولات ما زلت غارقًا في التفاصيل ولم أستطع لا أنا ولا غيري أن نصدر حُكما أو نكتب عنوانًا لمشوار طه حسين الثقافي والفكري، فلقد مررت واقتبست مما كتبه النقاد والزملاء عن تلك المعارك واستعرت بعض مرادفاتهم في موضوعي هذا وخلصت إلى سؤال دون إجابة بابتسامة أتركها لـ«الأيام»: هل كان طه حسين انتحاريًا إلى هذا الحد؟
فرغم هدوئه المعهود إلا أن معاركه الثقافية والفكرية تقول إننا كنا أمام انتحاري لا يهاب شيئًا، فكثيرة هي المعارك التي خاضها الدكتور طه حسين حتى أننا إذا بحثنا في النصف الأول من القرن العشرين، لن نجد معركة، إلا وكان طه حسين طرفًا فيها".
وعلى كثرة الكتب التي ألفها الدكتور طه حسين في حياته، فإنه لم يهتم بجمع حصاد المعارك التي خاضها، ربما لأنها بكاملها مضمنة ضمن أعماله في مواقعها (مثل حديث الأربعاء، وخصام ونقد، ومن بعيد..) أو لأن هناك من اهتم بجمع وتوثيق هذه المعارك عموما، وتسجيل وقائعها وجمع نصوصها، مثل كتاب أنور الجندي عن المعارك)، كما اضطلع بعض الباحثين والدارسين والمؤرخين الأدبيين بجمع وتوثيق معارك عميد الأدب العربي في أكثر من كتاب منها كتاب سامح كريم عن «معارك طه حسين السياسية والأدبية»، وكتاب إبراهيم عبد العزيز وغيرهما.
وبحسب الأديب أنور الجندى فى كتابه "المعارك الأدبية فى مصر"، مثلت المعارك الأدبية قطاعًا حيًا من قطاعات الحياة الفكرية فى الأدب العربى، كانت له أهميته وخطورته فى مجال النثر والشعر واللغة العربية والقومية العربية ومفاهيم الثقافة ونقد الكتب الأدبية.
ويوضح المفكر الراحل أن المعارك تلك دارت فى البداية بين المحافظين والمجددين، ثم دارت بين المجددين أنفسهم، متظرفيهم ومعتدليهم، وقد انتظمت موضوعين هامين: "معركة مفاهيم الثقافة، ومعركة مفاهيم الأدب، وكان أبرز أعلامها فى معسكر المحافظين أحمد زكى باشا وفريد وجدى، والرافعى، ومحمد أحمد الغمراوى، وشكيب أرسلان، ورشيد رضا، بينما فى معسكر المجددين: العقاد والمزنى وزكى مبارك وهيكل وطه حسين وسلامة موسى»
وكانت تلك المعارك خيرًا للأدب، فقد حثت على التجويد وفتحت السجال والنقد ومعارضة الآراء على نحو شيق، فمعركة مثل التى دارت بين الأديب مصطفى صادق الرافعى وعميد الأدب العربى طه حسين، بدأت عند صدور كتاب الرافعى "تاريخ آداب العربية" وانتقده الدكتور طه حسين عام ١٩١٢، واشتدت المعركة حين أصدر الرافعى كتابه "رسائل الأحزان"، وانتقده أيضًا طه حسين بشدة قائلا: "إن كل جملة من جمل هذا الكتاب تبعث فى نفسى شعورًا قويًا مؤلمًا بأن الكاتب يلدها ولادة وهو يقاسى من هذه الولادة ما تقاسى الأم من آلام الوضع".
وبالنظر إلى مجمل هذه المعارك؛ سيتأكد لنا أن طه حسين كان "انتحاريًا: لأنه لا ينأى عن المشكلات المثارة على الساحة، بل كان يتعمد أن يفجّر قضية، أو يطرح إشكالية، وأغلب القضايا التي فجّرها، كانت ذات صلة مباشرة بالصراعات الفكرية التي سادت في مصر، والأمة العربية في النصف الأول من القرن العشرين، وهي في لبها تتصل بإشكالات الهوية والتراث والمعاصرة، وطرحَ سؤالا: كيف يمكن أن نلحق بركب الحضارة الحديثة؟ مستحضرا النموذج الأوروبي دائما في طروحاته، بل كان ينادي بأهمية الأخذ بجذور الثقافة الأوروبية ممثلة في التراث اليوناني والروماني، ثم العلوم الغربية الحديثة، مثل علوم الاجتماع والأدب والفنون ومناهج البحث.
قدم طه حسين العديد من الآراء الجريئة والصريحة، حيث انتقد أساليب المفكرين والأدباء الذين سبقوه، ووجه انتقادات لاذعة للطرق التقليدية في تدريس الأدب العربي، ولضعف مستوى التدريس في المدارس الحكومية، مثل مدرسة القضاء وغيرها، كما دعا إلى ضرورة وأهمية توضيح وتبسيط النصوص العربية الأدبية للطلاب، بالإضافة إلى أهمية تأهيل المعلمين الذين يدرّسون اللغة العربية والأدب ليكونوا مؤهلين على أعلى مستوى من الثقافة والتمكن، مع تبني منهج تجديدي بعيد عن التمسك بالطرق التقليدية.
اشتعلت أولى معارك طه حسين في الصحافة مبكرًا عام ١٩١٠ عقب كتابته نقدًا وتعليقًا على كتاب «النظرات» لمصطفى المنفلوطي الذي ألفه المنفلوطي، وأصدره في شهر أبريل عام ١٩١٠، وكان نشر أجزاء منه على صفحات جريدة (المؤيد) الشهيرة خلال الفترة من شهر أبريل إلى شهر سبتمبر عام ١٩١٠.
والمنفلوطي كان نجم هذا الزمان، المثال البارع والكاتب العلم الذي لم ينج من تأثير أسلوبه أحد في تلك الفترة، فقد كان ملء السمع والبصر، كاتبًا مرموقا له لونه المعروف ومذاقه المخصوص، تميزت كتاباته برشاقة التعبير والبعد عن التكلف في اللفظ، واكتسب هذه الميزة من عمله في الصحافة، هذا الأسلوب الفني المتحرر من المحسنات التي كانت تزخر بها كتابات القرن التاسع عشر، ومطالع القرن العشرين.
وكان طه حسين من أشد المعجبين بأسلوب المنفلوطي، وقد اعترف بذلك صراحة في مقال له بجريدة (مصر الفتاة) في عددها الصادر يوم ٣١ أغسطس ١٩٠٩ حيث قال ما خلاصته إنه يقبل على قراءة جريدة (المؤيد) يوم تنشر مقالًا للأستاذ مصطفى المنفلوطي، وذكر أن مقالات ذلك الكاتب الكبير كانت تبلغ من قلبه مبلغا عظيما.
لكن هذا الموقف تغير بالكلية، ولم يكد يمضي أشهر قليلة على اعترافه بهذا الإعجاب، حتى بدأ سيل من هجوم الدكتور طه حسين نشرته جريدة (الشعب) في مقاله الأول «النظرة في النظرات» النظرة الثانية، يوم ٢٠ أبريل ١٩١٠
لهذا كان الهجوم على شخصية لها وضعها بين الناس من شأنه أن يسلط الأضواء على صاحب الهجوم أيا كان، فما بالنا لو كان صاحب الهجوم هو طه حسين الذي خرج حديثا إلى الحياة العامة، حيث انتسب إلى الجامعة الأهلية عام ١٩٠٨، وكان من الذين عرفوا الطريق إلى القارئ، وذلك من خلال مقالاته التي احتضنتها صفحات (الجريدة) التي كان يرأس تحريرها أحمد لطفي السيد.
وظل طه حسين ينتقد ويهاجم نظرات مصطفى لطفي المنفلوطي إلى أن بلغت حصيلة ما كتب من مقالات في نقد المنفلوطي ونظراته ٦ مقالات كاملة، فصل فيها طه حسين مآخذه على كتابة المنفلوطي وأسلوبه، وعدد من وجهة نظره، المعايب (أو العيوب) التي أخذها عليه، وقد حددها في ثمانية؛ وهي عيوب على ما فيها من قسوة وشدة في اللفظ وخشونة في الاتهام إلا أنها في المجمل تصور وتمثل خير تمثيل تفاصيل ودقائق في درس العبارة العربية وقياسها بين القديم والجديد، ووزن التركيب وطرائق التصوير فيما يدخل في صميم الدرس النقدي والأسلوبي الحديث والمعاصر.
في الشعر الجاهلي وصدامه مع رجال الأزهر
واجه عميد الأدب العربي العديد من المعارك الفكرية والثقافية التي كانت حديث الشارع المصري، أبرزها حين اصطدم مع شيوخ الأزهر لرفضه جمود التعليم الأزهري آنذاك، وبسبب كتابه الذي أصار ضجة كبير عند صدوره عام ١٩٢٦، وهو كتاب «في الشعر الجاهلي».
عمل طه حسين في كتابه «في الشعر الجاهلي» بمبدأ ديكارت وخلص في استنتاجاته وتحليلاته أن الشعر الجاهلي منحول، وأنه كتب بعد الإسلام ونسب للشعراء الجاهليين، فقامت الدنيا وهاجت، واندلعت مظاهرات الطلاب الأزهريين، وتقدم طلاب الأزهر وشيوخه بالبلاغات التى حققت فيها النيابة العامة مع طه حسين».
وأثار كتاب طه حسين "في الشعر الجاهلي" معارضة شديدة لأنه يقدم أسلوبًا نقديًا جديدًا للغة العربية وآدابها، ويخالف الأسلوب النقدى القديم المتوارث.
وقاد هذه المعارضة رجال المؤسسة الدينية، واتهم طه حسين في إيمانه، وسحب الكتاب من الأسواق لتعديل بعض أجزائه، وقامت وزارة إسماعيل صدقى باشا عام ١٩٣٢م بفصله من الجامعة كرئيس لكلية الآداب، فاحتج على ذلك رئيس الجامعة أحمد لطفي السيد، وقدم استقالته، ولم يعد طه حسين إلى منصبه إلا عندما تقلد الوفد الحكم عام ١٩٣٦م.
بدأت المعركة بمجرد صدور الكتاب بعدة بلاغات متتالية للنائب العمومى تتهم الكتاب وصاحبه بالطعن فى القرآن العظيم والتعدى على الدين ونسب الرسول عليه السلام، بدأها الشيخ خليل حسنين (الطالب بالقسم العالى بالأزهر) فى ٣٠ مايو ١٩٢٦م، وتلاها خطاب فضيلة شيخ الجامع الأزهر وإرفاقه التقرير الذى أعده علماء الأزهر يؤكدون التهم فى ٥ يونيو، وكان آخرها بلاغ عضو مجلس النواب عبدالحميد البنان في ١٤ سبتمبر.
واستطاعت هذه الدعاوى القضائية الحصول على أمر النيابة بسحب الكتاب من منافذ البيع وإيقاف توزيعه، بعد أن أثارت الصحف المصرية المعركة على صفحاتها باستضافة آراء المعارضين والمؤيدين.
رسالة أبي العلاء ووصفه بالملحد
أعد طه حسين رسالته للدكتوراه في ١٩١٤م، التي تناولت فيها ذكرى أبي العلاء، وهي تعد أول كتاب يُقدّم إلى الجامعة وأول رسالة دكتوراه تمنحها الجامعة المصرية، ولكن نشر هذه الرسالة في كتاب أحدث ضجة كبيرة وأثار مواقف متناقضة، حيث وصل الأمر إلى حد مطالب نواب البرلمان بحرمان طه حسين من حقوق الجامعيين، مدّعين أن الكتاب يحتوي على "إلحاد وكفر"، لكن سعد زغلول تدخل وأقنع النواب بالعدول عن مطالبهم.
حسين والعقاد
بدأت معركة العقاد مع طه حسين، من خلال رسالة الغفران، حول فلسفة أبي العلاء المعري، حين كتب العقاد عن الخيال في رسالة الغفران، "إن رسالة الغفران نمط وحدها في آدابنا العربية وأسلوب شائق ونسق طريف في النقد والرواية وفكرة لبقة لا نعلم أن أحدًا سبق المعري إليها، ذلك تقدير ى موجز لرسالة الغفران". واستفزت هذه الكلمة طه حسين، فكتب يقول: "ولكن الذي أخالف العقاد فيه مخالفة شديدة هو زعمه في فصل آخر أن أبا العلاء لم يكن صاحب خيال فى رسالة الغفران، هذا نُكر من القول لا أدري كيف تورط فيه كاتب كالعقاد"، ثم أصدر بعدها بواعث الصمت".
ديوان "أنات حائرة"
كما خاض عميد الأدب العربي معركة قوية عندما أصدر عزيز أباظة ديوانه "أنات حائرة" وكتب له طه حسين المقدمة مدح فيه ناظم الديوان مؤكدًا أن حقه أن يكتب يصور إحساسه دون أن يكون ذلك وقفا على الشعراء، وهو ما أشعل الخصومة بين طه حسين وعدد من كتاب عصره، فهاجمه المازنى فى جريدة "البلاغ"، ورد عليه طه حسين في نفس الجريدة مقال عنوانه "رد على نقد".
معركة التغريب والتحديث
عُرف عن طه حسين ميله لمسايرة الحضارة الغربية، ودعوته الصريحة للأخذ والاقتداء بالمناهج والطرق الدراسية والتعليمية الأوروبية، ففي كتابه عن مستقبل الثقافة، يعلن طه حسين عن وجهة نظره بوضوح، عندما يقول يجب أن نسير سيرة الأوروبيين ونسلك طريقهم، لنكون لهم أندادًا، ولنكون لهم شركاء في الحضارة، خيرها وشرها، حلوها ومرها، وما يحب منها وما يكره، وما يُحمد منها وما يُعاب. تلك الدعوة التي تواترت في كتب ومؤلفات عميد الأدب العربي، أثارت الكثير من الاعتراضات والانتقادات. ويذكر الدكتور إبراهيم عوض في كتابه "معركة الشعر الجاهلي بين الرافعي وطه حسين"، أن طه حسين كان "أداة أوروبية استعمارية، غرضه توهين عرى الإسلام". كما أن الرافعي اعتاد أن يلقب طه حسين متهكمًا بـ"أبي مارغريت" و"أبي ألبرت"، تعريضًا بانتماءاته الفكرية الوثيقة الصلة بالغرب.
وينقل إبراهيم عوض قصة غريبة عن طه حسين على لسان سكرتيره الشخصي، وهي أن حسين أثناء إقامته في فرنسا وعند إتمام مراسيم زواجه من الفرنسية سوزان بريسو، تعمّد لاعتناق النصرانية، وكان ذلك في كنيسة إحدى القرى الفرنسية. لكن عوض لا يؤكد تلك القصة، ولا يقطع بصحتها.
ومن أهم "الاتهامات" التي وجهت لحسين، أنه كان وثيق الصلة بالعديد من الشخصيات المسيحية، منهم القس الكاثوليكي عم زوجته سوزان، والذي اعتاد طه حسين على وصفه بكونه "أحب الناس إلى قلبه"، والمستشرق الإنجليزي مرجيليوث والمستشرق الفرنسي لويس ماسينون.
معركة الشيخ بخيت
في رمضان عام ١٩٥٥، نشر مقال لأحد مدرسي الأزهر، يدعى الشيخ عبد الحميد بخيت في جريدة الأخبار. وقد ورد في المقال رأي الشيخ الأزهري في إباحة إفطار رمضان إذا أحس الصائم بأي تعب أو جهد أو مشقة، وكان دليل الشيخ في فتواه الآيات القرآنية التي ترى ضرورة عدم تحميل الإنسان فوق ما يستطيع.
وكرد فعل على هذا المقال، قام الأزهر بنشر مقال آخر على صفحات الجريدة نفسها، ليبين خطأ الشيخ في فتواه، وأعلن الأزهر عن عزمه فتح تحقيق مع الشيخ بخيت وعن نقله من وظيفته. ورغم كونه في ذلك الوقت موجودًا في فرنسا، إلا أن عميد الأدب العربي لم يكن ليفوت تلك الفرصة السانحة للدخول في معركة جديدة ضد أعدائه وخصومه التقليديين. فنشر مقالًا بعنوان "ما الخطأ؟"، انتقد فيه جمود الأزهر، وعدم قدرته على التجديد والاجتهاد ومواكبة العصر، كما أعلن عن رأيه في ضرورة عدم تعريض الشيخ بخيت للعقاب. وأمام ذلك الوضع الحرج، قام الشيخ عبدالحميد بخيت بالتراجع عن موقفه، وأعلن عن خطئه وتخليه عن الأفكار التي نشرها في مقالته السابقة. ولكن رغم ذلك فقد تم التحقيق معه ثم نقله إلى إحدى الوظائف الكتابية. وقد تطورت الأحداث بعد ذلك بسرعة كبيرة، فمن باريس أرسل طه حسين مقالًا يعترض فيه على نتائج ذلك التحقيق، فأدى ذلك إلى حدوث تراشق فكري بين الفريق المؤيد للأزهر وأفكاره التقليدية من جهة، والفريق الآخر المؤيد لطه حسين ومنهجه التنويري التجديدي من جهة أخرى. واستمرت تلك المعركة قائمة لعدة شهور، حتى استطاع الشيخ بخيت أن يرجع مرة أخرى لوظيفته الأساسية، بعد أن رفع قضية أمام القضاء الإداري، فحكمت المحكمة بإبطال قرار شيخ الأزهر ورجوع الشيخ بخيت لوظيفة التدريس.