المساومات هى لغة المصالح التى تحكم العلاقات السياسية، هكذا على ما يبدو كان أحد أسباب سقوط نظام بشار الأسد، فتناول الحالة السورية يجب أن يكون من ضمن منظور الأحداث الإقليمية والعالمية التى فى مجملها هى حالة من المخاض المتعسر والصعب نتيجة الصراع الشرس ما بين نظام عالمى يرفض التراجع بقيادة أمريكا والغرب ونظام آخر قادم بقوة بقيادة مجموعة بريكس وتتقدمه كلٌ من الصين وروسيا.
فقد أشار المحللون إلى العلاقة بين الملفين السورى والأوكراني، لما يمثله الملفان من تأثير فى صراع النفوذ ما بين النظامين، فالملف الأوكرانى هو ورقة ضغط من الغرب على روسيا التى بدأت استفاقتها منذ سنوات وساهمت فى تشكيل مجموعة بريكس التى ترى أمريكا ونظامها العالم الخطر الحقيقى الذى يهدد وحدانية وجودها بقيادة النظام العالمي، وهنا تأتى أهمية جزيرة القرم التى استولت عليها روسيا فى 2014 كمرتكز هام لطريق الحرير الصينى والتى ستكون البوابة التجارية مع معظم دول الاتحاد الأوربى عن طريق روسيا، ومن ثم يأتى موقع سوريا ذات الأهمية الجيوسياسية فى المنطقة والتى استخدمتها روسيا فى السنوات الأخيرة فى مواجهة مخطط الشرق الأوسط الجديد، الذى يديره النظام العالمى القائم بقيادة أمريكا والذى يهدف إلى إعادة تموضع إسرائيل لضمان امنها وقوتها تحسبًا لأى متغيرات فى المستقبل القريب والبعيد، من هنا جاءت المساومة على الملفين لفك الاشتباك بين روسيا والغرب.
هنا يلزم تسليط الضوء على عدد من التساؤلات، ما مصير إسرائيل عندما تتراجع أمريكا ومعها النظام العالمى القائم الذى يمثل الضامن الأمنى لها؟ هل يحدث صدام عسكرى بين النظامين القائم والقادم؟ فى حال المساومات السياسية بين النظامين فما هى أنواع تلك المساومات وعلى ماذا تكون؟ هل سيعاد تدوير الربيع العربى مرة أخرى فى دول المنطقة؟ ماذا سيكون وضع مصر مستقبلًا ومساحة تموضعها فى النظام العالمى القادم؟ والسؤال الأخير من سيحكم سوريا بعد سقوط نظام بشار الأسد.
أولًا. مصير إسرائيل فى حال تراجع الضامن الأمنى لها والمتمثل فى النظام العالمى القائم بقيادة أمريكا، سيكون مرهونًا بنجاح مشروع الشرق الأوسط الجديد القائم على تفتيت دول المنطقة والسيطرة على الممرات والدروب التجارية والملاحية مع الثروات والموارد، ومن ثم تحويلها إلى مرتكز تجارى وسياسى يجعل مصير شعوب المنطقة مرتبطًا بوجودها، وإن لم ينجح المخطط فستسمر إسرائيل فى حالة خطر وجودى لأنها جسم أيدلوجى وسياسى غريب عن ثقافة المنطقة.
ثانيًا. من المستبعد أن يحدث صدام عسكرى بين النظامين، لكن من الوارد حدوث صراعات بالوكالة فى مناطق النفوذ، لأن الصدام العسكرى يعنى دمار أجزاء كبيرة من العالم، لكن الصراعات ستمثل وسائل ضغط لتحسين المساومات والاتفاقيات.
ثالثًا. بالطبع سيحدث مساومات بين النظامين ستتمثل فى مساحة تموضع وتأثير كلٍ منهما بين أقطاب نفوذهما، بجانب كيفية إعادة هيكلة المؤسسات الأممية الحاكمة مع تغيير القوانين والأدوات طبقا لنفوذ وتأثير كل قطب، وستكون المعاملات التجارية هى الأكثر تعقيدا ومشقة لانها ارتبطت عبر عقود طويلة بعملة الدولار، ولذا سيكون الصراع ما بين العملات المشفرة التى تحاول أمريكا إحلالها مكان الدولار، وما بين عملة موحدة تعتزم مجموعة البريكس طرحها وفى كل الأحوال سيصبح الذهب هو الغطاء لأى منهما.
رابعًا. اعتقد ليس من الوارد إعادة تدوير الربيع العربى مرة أخري، بل سيكون هناك تدوير لبعض أدواته المتمثلة فى الإرهابيين، لاستخدامهما فى الضغط من اجل تحسين المساومات والاتفاقيات التى تخدم تموضع إسرائيل فى المستقبل.
خامسًا. ليس خفيًا على احد أن مصر كانت هى الهدف الأكبر لمخطط الشرق الأوسط الجديد عن طريق إسقاط جيشها ومن ثم إسقاط الوطن، وهذا كان كفيلًا بإسقاط كل المنطقة وتحقيق هدف المخطط بكل سهولة ويسر، لكن الجيش المصرى وأجهزة الدولة نجحوا فى إدارة المعركة بشكل لم يتوقعه قادة المشروع، حتى وصلت مصر إلى مرحلة أنها تمثل خطرًا على المشروع وليس العكس.
سادسًا. الذى سيحكم سوريا بعد سقوط نظام الأسد هى رؤية إقليمية عالمية تتماشى من المتغيرات القادمة التى ستحكم منطقة الشرق الأوسط الجديد، فالمسلحون الموجودون حاليًا بقيادة أبو محمد الجولانى ليسوا سوى مرحلة مؤقته فرضتها الظروف السياسية، فالداخل السورى متنوع فى تكوينه الأيدلوجى والقبلى والاثنى الذى يصعب معه الاستقراء السياسى لما هو قادم، فهل يكون نظام حكم ذاتى لعدد من المناطق؟ أم حكم فيدرالي؟ أم يتدخل المجتمع الدولى والإقليمى لخلق نظام قوى يجمع سوريا تحت مظلته؟ كل ذلك يتوقف على المدة الزمنية الذى سيستغرقها النظام العالمى القائم والقادم فى صراعهما.