«لى من دمشق حبيب بالشخص عنى بعيد.. فنهر دمعى للوجد فى دمشق يزيد».. ابن الخيمى
شعراء سوريا رسل الفكر والجمال.. وبنوا الجسور بين القلوب والعقول
مس من الجنون.. من الحكايات والملاحم الشعبية وحكايات الملوك إلى شعراء العصر الحديث
رحلة ممتدة من أبى العلاء المعرى فيلسوف الشعر وقبلة الشعراء والبحترى وأبو تمام إلى نزار قبانى شاعر الحب والنضال وأدونيس أحد أيقونات الشعر العربى المعاصر ورواده
إنه ليس شعرًا بل مس من الجنون لوحة جدارية كبيرة خلدها شعراء سوريا عبر التاريخ، عرفوا الكتابة وحروفها حملت الجداريات كتاباتهم لتكون وثيقة عبر التاريخ، فهل الشعر والشعراء يستطع أن يخطوا بنا نحو المستقبل وهل سيموت الشعر وقوافيه بعدما حمل معه رياح وعطر الماضي العتيق.
فدمشق لم تكن مجرد مدينة تجسد الحكم، بل كانت قبلة لكل الباحثين عن الأمان والحب والحياء فذهب إليها المتنبي في قديم الزمان ينجو بداخلها بعد رحلة طويلة في الصحراء، فرحل المتنبي إلى الشام بعدما كان غير آمن في بغداد، ويشدو بها أعظم الأبيات الشعرية فهناك الشعر الذي أخرجه في شمال الشام والشعر الذي كُبت في سيف الدولة، فيقول المتنبي عن دمشق :« مَبيتي مِن دِمَشقَ عَلى فِراشِ، حَشاهُ لي بِحَرِّ حَشايَ حاشِ، لَقى لَيلٍ كَعَينِ الظَبيِ لَوناً، وَهَمٍّ كَالحُمَيّا في المُشاشِ، وَشَوقٍ كَالتَوَقُّدِ في فُؤادِ، كَجَمرٍ في جَوانِحَ كَالمِحاشِ...........» وقال أيضًا «فَإِنَّ الفارِسَ المَنعوتَ خَفَّت ،لِمُنصِلِهِ الفَوارِسُ كَالرِياشِ،..... وَقَد نُسِيَ الحُسَينُ بِما يُسَمّى، رَدى الأَبطالِ أَو غَيثَ العِطاشِ».
هذا ما فعلته دمشق بالغرباء فماذا فعلت في أبنائها الشعراء.. الذي أثروا المشهد الثقافي العربي منذ فجر التاريخ.. بدءً من أسطورة جلجامش التي تغنى بها الشعراء وباتت مصدر إلهام للأدباء.. ومرورًا بالحكايات الشفاهية التي تناقلتها الأجيال جيلا بعد جيل وإذا ذكرنا شعراء سوريا نجد وان لكل اسم قد أخرج مئات الألوف من الأبيات الشعرية بين الحب والحرب والفلسفة والصور الشعرية الباحثة عن الوجودية وحملت معها الرؤى الفلسفية العميقة.. فليس غريباً أن تهدينا الحضارة السورية شاعرً كأبي العلاء الذي جمع بين الفلاسفة والفكر ناسجًا خليطًا من السرد الشعري ليكون قبلة العاشقين والشعراء والفلاسفة والمفكرين، ولما لا فقد كتب فيه عميد الأدب العربي ثلاث كتب من أهم الكتب والإصدارات التي تناولت حياة أبي العلاء والعصر الذي ولد فيه وفلسفته وثورته على الأوضاع، باعتباره أحد نوابغ العصر العباسي الثاني.
عودة إلى وثائق والجداريات
من أبجدية أوغاريت والتي كشفتها اللقى الأثرية، والتي تبناها العالم وأجمع عليها علماء الغرب، هذا لخلق المفاجئ الذي أعطى البشرية أعظم ما يمكن في حقل الكتابة والتدوين، كانت المعاني تتجسد عبر اللوحات متجسدة في شكل ملاحم شعرية ونثرية وكتابات تتعلق بالطقوس الدينية والنصوص الأدبية، وقد كشفت عمليات التنقيب في «ايبلا» التي تبعد قرابة الستين كيلو متر عن حلب فوق تل مرديخ، إذ كشفت البوابة الجنوبية لسور المدية عن العديد من المعابد والمساكن والقصر الملكي الذي تم اكتشافه بين عامي 1974 و1975، ويعود تاريخه إلى الألف الثالث قبل الميلاد، حاملاً معه صفحة من صفحات التاريخ، إذ عُثر يحوي على حكاية أخرى من حكايات التاريخ.
فكان لابد وأن نتحدث عن اللقى الاثرية التي وجدت في القصر حيث عُثر في مكتبة القصر على ما يقرب من 15000 «لوحة» أو رقيم ، تنوعت موضوعاتها ما بين الاقتصادية والتاريخية والمعجمية والأدبية أيضًا.
حملت النصوص الأدبية معم لفظي بين اللغتين الأشورية واللغة السومرية والتي كانت تستخدم في العلاقات الدبلوماسية، فكان الشعر هو الوسيلة التي حُكي بها التاريخ ففي عصر الملك سرجون والذي تشبه قصته قصة سيدنا موسى فألقت به أمه إلى النهر ويجسدها أحد الشعراء الأشوريين في القرن السابع قبل الميلاد قائلا :«أمي كانت المتقلبة.. ووالدي لم أعرفه، أعمامي أحبو التلال وسكنوها، (أزوبيراتو) مسقط رأس تقع على الفرات، حبلت بي أمي المتقلبة وبالسر ولدتني، في سلة القصب وضعتني وبالقبر غلفتني، وفي النهر ألقت بي ومياهه لم تبتلعني بل حملتني، بل حملني وإلى (آكي) البستاني اتخذني، ثم جعلني (آكي) البستاني لديه بستانيا، وأنا بستاني منحتني عشتار المحبة والنعمة، فمارست الملك تلك السنين» ليعود أحد الشعراء الآشوريين مجسدًا بطولات وفتوحات «سرجون»، قائلاً: «أنا شاروكين ملك أكاد القوى، حكمت ذوي الرءوس السود وملكت عليهم، ببلطات البرونز قهرت الجبال العظيمة، تسلقت السلاسل العليا، وعبرت السلاسل الواطئة، قبضت على (دلمون) بيدي وإلى (دير) العظيمة صعدت، وأبي ملك يأتي من بعدي، فليحكم ذوي الرءوس السود ويملك عليهم».
ومن الملاحم والحكايات التي حملتها اللوحات واللقى الأثرية، لتخلد تاريخ الملوك والأمراء ونضالهم وبحثهم عن الوجودية والخلود إلى الشعراء عبر العصور .. ومنهم الفلاسفة فخرجت لنا أشعار الفيلسوف بيتاغور الذهبية أو الآيات الذهبية كما أطلق عليها من قبل فقد جمعت بين التأمل والحكمة والعدالة والمساواة والتفاعل مع الطبيعة والبحث عن الحقيقة ، فتكمن أهمية «الأشعار الذهبية» في قدرتها على تجاوز حدود الزمان والمكان، وتقديم إرشادات صالحة لكل زمان ومكان، فهي ليست مجرد مجموعة من الأبيات الشعرية، بل هي دليل عملي للحياة الروحية والأخلاقية، وقد ألهمت هذه الأشعار العديد من المفكرين والفلاسفة والقادة الروحيين على مر العصور، فهي بمثابة الإرث الذي قدم لنا رؤية متكاملة للحياة الفاضلة .
من قلب الشعراء «لوحة زاهية الألوان»
فكان لابد حينما نتحدث أن الشعر والشعراء منذ الحضارة السومرية القديمة مرورًا بالعصور الزمنية المتعاقبة والمختلفة ومع التغيرات السياسية والاجتماعية وتغيير بنية المجتمع، من حقبة زمنية لأخرى، نجد أن الشعراء عبر العصور استطاعوا أن ينهموا من التاريخ ومن هذا الإرث الغني بالمعاني والفكر والعمق الفلسفي .
فعندما نتأمل تاريخ الشعر السوري، نجد أنفسنا أمام لوحة زاهية الألوان، تتداخل فيها الأزمان وتتراكم فيها التجارب الإنسانية الغنية، وهو ما وجدناه في اللقى الأثرية وعلى الجداريات والوثائق، ما يؤكد على أن سوريا هي موطن من مواطن الإبداعات الشعرية الخالية، فمن نهر الفرات للجبال والوديان ألهمت الشعراء والملوك والفلاسفة لتنطق ببديع الكلمات في نسج لوحة من لوحات الطبيعة، يصنع فيها كل شاعر من شعرائها لونًا متفردًا لا يضاهيه غيره، فمن البحتري وأبي العلاء وأبي تمام إلى نزار قباني وعمر أبو ريشة وأدونيس، وغيرهم الكثير والكثير ، فاستطاع شعراء سوريا بعبقريتهم وحسهم المرهف وقدرتهم على نج الكلمات في قوالب شعرية تدخل إلى القلوب، ليبنوا منها جسورًا تعبر بين القلب والعقل ويتركوا بداخلنا أثرًا لا يمكن محوه.
إن الشعراء السوريين، بعبقريتهم وإبداعهم، لم يكونوا مجرد كتاب للكلمات، بل رسل للفكر والجمال، استطاعوا من خلال قصائدهم أن يبنوا جسوراً بين القلوب والعقول، وأن يتركوا أثراً لا يُمحى في ذاكرة الثقافة العربية.
البحتري وسحره الخاص
استطاع البحتري أن يخلد اسمه بين كبار الشعراء السوريين، فهو الوليد بن عبيد بن يحيى الطائي، أبو عبادة البحتري وصف بـ صاحب «سلاسل الذهب»، وهو أحد الثلاثة شعراء من أبناء عصره وهم المتنبي، وأبو تمام، والبحتري، حينما سُئل أبي العلاء المعري.. عن أي الثلاثة أشعر؟ فقال: المتنبي وأبو تمام حكيمان، وإنما الشاعر هو البحتري.
فقد عُرف بقدرته على المزج بين الحقيقة والخيال، ما أضاف على الشعر العربي سحرًا خاصًا، يلامس القلب والوجدان، فخلق عالم من الأبيات الشعرية التي تثير المشاعر ، كما كانت أشعاره تحمل في طياتها ثوره مخفية فنجده يقول: «.. قُل لِلإِمامِ الَّذي عَمَّت فَواضِلُهُ، شَرقاً وَغَرباً فَما نُحصي لَها عَدَدا، اللَهُ وَلّاكَ عَن عِلمٍ خِلافَتَهُ، وَاللَهُ أَعطاكَ ما لَم يُعطِهِ أَحَدا، ..... أَمّا دِمَشقُ فَقَد أَبدَت مَحاسِنَها، وَقَد وَفى لَكَ مُطريها بِما وَعَدا...».
وقال عن الدهر: «طَلَبتُكِ يا دُنيا فَأَعذَرتُ في الطَلَب ......فَما نِلتُ إِلّا الهَمَّ وَالغَمَّ وَالنَصَب» .. ويقول أيضًا «.... إِذا اِقتَصَرتَ عَلى حُكمِ الزَمانِ فَقَد، أَراكَ شاهِدُ أَمرٍ كَيفَ غائِبُهُ، كَلَّفتَني قَدَراً غَلَّت ضَرورَتُهُ، عَزيمَتي وَقَضاءً ما أُغالِبُهُ.... ».
ونستطيع أن نقول أن أشعار البحتري استطاعت أن تلامس القلب والوجدان في ليال الهجر الطوال فنجده يقول في شكوى الفؤاد والشوق: «فُؤادٌ مَلاهُ الحُزنُ حَتّى تَصَدَّعا، وَعَينانِ قالَ الشَوقُ جودا مَعاً مَعا، لِمَن طَلَلٌ جَرَّت بِهِ الريحُ ذَيلَها، وَحَنَّت عِشارُ المُزنِ فيهِ فَأَمرَعا، لِلَيلاكَ إِذ لَيلى تُعِلُّكَ ريقَها، وَتَسقيكَ مِن فيها الرَحيقَ المُشَعشَعا، كَأَنَّ بِهِ التُفّاحَ غَضّاً جَنَيتُهُ، وَنَشرَ الخُزامى في الصَباحِ تَضَوَّعا، وَهَيَّجَ شَوقي ساقُ حُرٍّ أَجابَهُ، هَديلٌ عَلى غُصنٍ مِنَ البانِ أَفرَعا».
أبو العلاء وفلسفة الشعر
كانت ولاتزال التساؤلات كثيرة عن أبي العلاء وسره العجيب هذا المفكر والفيلسوف الثوري الغامض والغاضب الذي راح عنه بصره لكن لم تبعد عنه البصيرة يومًا قط، فأبا العلاء وبما اوتي من بلاغة شعريه ما جعل البعض يطلقون عليه فيلسوف الشعراء، والبعض الآخر لقبوه بشاعر الفلاسفة، فهل هو شاعر أم فيلسوف، أم زاهدًا من متع وزينة الدنيا، ما يجعلك تشعر بانه أحد المتصوفة المتأملين في بديع الخلق، مع جعل أشعاره تمزج بين الحكمة والبلاغة مع الرؤى الفلسفية التي تحدت قيود الفكر ، ما جعله يقدم للإنسانية وللإبداع العربي شعرًا غاية في الروعة والتناقض أيضًا، ما جعل عمدي الأدب العربي طه حسين أن يستعدي صوت أبي العلاء ويتحدث معه ويعله يدافع عن نفسه أمام من ألقوا به في السجن، ومن بنيته الشعرية المتفردة التي جعلت من أشعاره لها معجم ومفردات تخص أبي العلاء عن غيره ، فكان أبي العلاء يرى في الشعر أداة للتفكير والتأمل وساحة من ساحات مناقشة القضايا الوجودية والبحث عن الذات ، فقد تفرد أبي العلاء بأسلوبه ولغته المتفرده وهو ما ظهر في قوله "نديمتي جارية ساقية، ونزهتي ساقية جارية" هذا التجانس والتكرار جعل لأبي العلاء معجمه الخاص وهو ما نجده في قوله : «سِرْ إِنِ اسْطَعْتَ فِي الْهَوَاءِ رُوَيْدًا، لَا اخْتِيَالًا عَلَى رُفَاتِ الْعِبَادِ، رُبَّ لَحْدٍ قَدْ صَارَ لَحْدًا مِرَارًا، ضَاحِكٍ مِنْ تَزَاحُمِ الْأَضْدَادِ، وَدَفِينٍ عَلَى بَقَايَا دَفِينٍ، فِي طَوِيلِ الْأَزْمَانِ وَالْآبَادِ، فَاسْأَلِ الْفَرْقَدَيْنِ عَمَّنْ أَحَسَّا، مِنْ قَبِيلٍ وَآنَسَا مِنْ بِلَادِ..» ويقول أيضًا: «تَحَمَّل ثِقلَ نَفسِكَ وَاِحفَظَنها ، فَقَد حَطَّ المُهَيمِنُ عَنكَ ثِقلي، أَلَم تَرَ عالَماً يَمضي وَيَأتي، سِواهُ كَأَنَّهُ مَرعيُّ بَقلِ، هِيَ الأَفهامُ قَد صَدِئَت وَكَلَّت، وَلَم يَظفَر لَها أَحَدٌ بِصَقلِ، أَتَعقُلُ ساعَةً فَتَرومَ عَقلاً، لِعَنسِكَ أَم خُلِقتَ بِغَيرِ عَقلِ، وَكَيفَ أُجيدُ في دارٍ بِناءً، وَرَبُّ الدارِ يُؤذِنُني بِنَقلِ» والمتأمل في شعر أبي العلاء يجد هذا الإنسان الباحث والمفكر والثورى والفيلسوف الزاهد في الحياة فكان يرتدي خشن الثياب وعرفت أشعاره ومعجمه الخاص باللزوميات، والتي تجسدت في الكثير من أشعاره لكنه كان متأملاً في الحياة والموت ونجده يقول : « أَلَم تَرَ أَنَّني حَيٌّ كَمَيتٍ، أُداري الوَقتَ أَو مَيتٌ كَحَيِّ، أُحاذِرُ عالَمي وَأَخافُ مِنّي، وَأَلحى الناسَ بَلَهَ بَني لُحَيِّ، وَهُم لي مِثلُ ما كانَت قَديماً، لِقَيسِ بنِ الخَطيمِ بَنو دُحَيِّ».
نزار وكلماته
ومع العصر الحديث نجدنا أمام روح من أروح شعراء سوريا القدامي الذين تغزلوا في الحياة والحب والعقل تغزل في المرأة وفي دمشق وفي الحب، رسم بألوانه شعر يظل بداخل الوجدان فيقول عن دمشق :«هذي دمشق.. وهذي الكأس والراح، إني أحب.. وبعـض الحـب ذباح، أنا الدمشقي.. لو شرحتم جسدي، لسـال منه عناقيـدٌ.. وتفـاح، و لو فتحـتم شراييني بمديتكـم، سمعتم في دمي أصوات من راحوا، زراعة القلب.. تشفي بعض من عشقو، وما لقلـبي –إذا أحببـت جـراح، مآذن الشـام تبكـي إذ تعانقـني، و للمـآذن.. كالأشجار.. أرواح، للياسمـين حقـوقٌ في منازلنـا.. وقطة البيت تغفو حيث ترتـاح».
وقطه البيت تغفو حيث ترتاح هكذا تغزل في دمشق والتي كانت بالنسبة له الراحة والأمن والأمان، فتغزل نزار فيها وكأنها الحبيبة التي كان ينتظرها لينام ويهدأ في أحضانها، فهنا في هذا المنزل حتى لو كان متهالكًا أستطيع أن أغفو وارتاح، ويقول نزال عن الشعر: «الشعر هو أن تخلق من الحلم واقعاً» .
فهو نزار بن توفيق القباني دبلوماسي وشاعر سوري معاصر، ولد في 21 مارس عام 1923 من أسرة دمشقية عريقة، إذ يعتبر جده أبو خليل القباني رائد المسرح العربي. انخرط في السلك الدبلوماسي متنقلاً بين عواصم مختلفة حتى قدّم استقالته عام 1966؛ أثارت قصيدته «هوامش على دفتر النكسة» عاصفة في الوطن العربي وصلت إلى حد منع أشعاره في وسائل الإعلام.
أدونيس صوت التغيير والانفتاح
«الشعر هو تلك اللحظة التي تُعيد الإنسان إلى نفسه، إلى طبيعته الأولى»
الكثيرون يتساءلون لماذا لا يأخذ شاعرنا أدونيس جائزة نوبل في الآداب على الرغم من أشعاره التي تمتاز بعبق التاريخ وفي الوقت ذاته تمثل نموذجًا للتغير والانفتاح فيعتبره النقاد أحد أهم أيقونات الشعر العربي المعاصر ورواده، فتاريخ الشعر السوري يحمل معه قصة من الإبداع والتجدد، وأدونيس جزء لا يتجزا من قصة هذا الإبداع إذ استطاع أن يتحدى الزمن ويستشرف المستقبل . فاستحق بالفعل عدة جوائز عالمية، كان آخرها حتى الآن جائزة جون مارجريت الدولية للشعر التي يمنحها معهد سرفانتس وتحمل اسم شاعر كتب باللغتين الكتالونية والإسبانية، وذلك عن مجمل أعماله المكتوبة باللغتين العربية والفرنسية، وتسلمها منذ نحو أسبوعين فى باريس.
ونجد أعمال «أدونيس» تتسم بالجرأة والتجديد، حيث سعى إلى كسر القيود التقليدية والانطلاق نحو آفاق جديدة، مما أكسبه شهرة واسعة في الأوساط الأدبية العالمية. يقول أدونيس: «الشعر هو تلك اللحظة التي تُعيد الإنسان إلى نفسه، إلى طبيعته الأولى».
المشاغب المتسائل
ويخطو بنا «أدونيس» أو الاسم المستعار للشاعر السوري علي أحمد سعيد، أحد أبرز الأصوات الشعرية في العصر الحديث إلى عوالم التساؤلات حينما وجهها لنا على لسان طفل إذ يقول :«وجه يافا طفلٌ هل الشجَرُ الذابل يزهو؟ هل تَدخل الأرض في صورة عذراء؟ من هناك يرجّ الشرق؟، جاء العصف الجميلُ ولم يأتِ الخرابُ الجميلُ صوتٌ شريدٌ... «كان رأسٌ يهذي يهرّجُ محمولاً ينادي أنا الخليفةُ»، هاموا حفروا حفرةً لوجهِ عليٍّ، كان طفلاً وكان أبيضَ، أو أسودَ، يافا أشجارُه وأغانيه ويافا. تكدّسو، مزّقوا وجهَ عليٍّ، دمُ الذبيحة في الأقداحِ، قولوا: جبّانةٌ، لا تقولوا: كان شعريَ وردًا وصار دماءً، ليس بين الدماءِ، والورد إلا خيط شمسٍ، قولوا: رماديَ بيتُ، وابنُ عبّادَ يشحذ السّيفَ بين الرأس والرأسِ، وابنُ جَهْورَ ميْتُ.
فهو أكثر شعراء جيله جدلاً فهو مفكر ومثقف ثوري، سعى إلى تجديد الشعر العربي وتجاوز قوالبه التقليدية، من خلال تبني أساليب حديثة في الكتابة والتعبير، والتعمق في قضايا الوجود والهوية والتاريخ.
وهو ما جعله يبحث من خلال أبياته وأشعاره ودواوينه بسؤاله حول الوجود والبحث عن التراث وفي الوقت ذاته الابتكار والتجديد ولهذا وصفه النقاد بالثوري المتمرد الثائر حتى على القوالب الشعرية التقليدية، بل امتد تمرده إلى الموضوعات التي يعالجها الشعر ليرسم لنفسه خطًا متفردًا في لوحه الشعر السوري ويكتب اسمه بحروف من الذهب بجوار من سبقوه من شعراء، فما بين التجريب والتجديد والبحث عن قوالب وموضوعات شعرية مغايريه عما هو سائد يخرج لنا بمزيج شعري يجمع بين كل المتناقضات بين التراث والمورث والتساؤلات الوجودية، ليخرج لنا بمزيج شعري يجمع بين الصورة الشعرية الرمزية، واللغة الموحية، والتجريب في الأوزان والقوافي.
يرى أدونيس أن الشعر يجب أن يكون مرآة تعكس الواقع، وتعبر عن هموم الإنسان وتساؤلاته، وأن يكون وسيلة للتغيير والتنوير، فهو لا يكتب من أجل الكتابة فقط وانما يطرح من خلال تساؤلاته قضايا إنسانية ووجودية عميقة وكأننا أمام شاعرًا من شعراء الزمن القديم ولكن بوجه جديد ومتجدد فيرى أن التراث ليس مجرد ماضٍ يجب استعادته، بل هو مادة يجب إعادة قراءتها وتأويلها، وأن التاريخ ليس مجرد أحداث وقعت في الماضي، بل هو عملية مستمرة من التشكيل والتغيير.
يقول أدونيس:
«نقدرُ، الآنَ، أن نتساءلَ كيف التقينا
نقدرُ، الآنَ، أن نَتَهجّى طريقَ الرّجوعْ
ونقولَ: الشواطىءُ مهجورةٌ،
والقلوعْ
خَبَرٌ عن حُطامٍ.
نقدر، الآن، أن ننحني، ونقولَ: انْتَهَيْنا»
فهل نحن انتهينا؟ سؤال يطرحه أدونيس في إحدى قصائده والتي تعتبر من القصائد الاستشرافية رأي فيها المستقبل.. فهل سنستعيد تلك الشواطىء المهجورة ونعيد بناء ما خلفه الإعصار الغاشم؟!.