سامح قاسم يكتب: جدلية الحضور والتيه في "يجري في ملابسه كالضليل" المساء الاخباري ..

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

حين نغوص في عوالم الأدب القصصي، نكتشف أن هناك أعمالًا تمتلك القدرة على ملامسة أعمق جروحنا، وتضعنا أمام تساؤلات، ومحاولات للفهم لا تنتهي. من بين هذه الأعمال تأتي المجموعة القصصية "يجري في ملابسه كالضليل"، للكاتب والروائي حسين عبد الرحيم التي تتجلى كصرخة في وجه التناقضات والمسوخ والتشوهات التي تحيط بنا. هي ليست مجرد مجموعة قصصية تقرأ على عجالة، بل نصوص تستدعي التمهل والتأمل في عوالمها وشخوصها، لما بها من تشابك في الخيوط بين الواقعي والرمزي، بين الحلم والحقيقة، وبين الحركة والثبات.

عنوان المجموعة نفسه يحمل في طياته بعدا رمزيًا يثير في القارئ رغبة جامحة لاكتشاف المكنون. "يجري" كفعل مستمر يوحي بالحركة الدؤوبة، بينما "كالضليل" يضفي على المشهد بعدًا وجوديًا يتعلق بالتيه والبحث غير المنتهي عن المعنى. وكأن الشخصيات في هذه المجموعة ليست سوى انعكاسات لنا جميعًا، تجري باحثة عن شيء ما، عن إجابات، عن خلاص، عن الحقيقة التي تتبدد كسراب كلما اقتربنا منها.

الكاتب في هذه المجموعة ينجح في خلق فضاءات متشابكة من الزمان والمكان، حيث يصبح الماضي والحاضر كتفًا بكتف، والمكان ذاكرة نابضة بالحياة. بورسعيد والمنصورة، المدينتان الحاضرتان بقوة في النصوص، تتحولان إلى شخوص صامتة، تروي حكايات من الزمن الغابر، تشهد على تحولات الشخصيات وصراعاتها مع الوجود والعدم. من خلال وصف دقيق ومعبر، يربط الكاتب بين المكان والإنسان، فيصبح كلاهما مرآة للآخر.

لا تقتصر براعة الكاتب على وصف المكان أو معالجة الزمن، بل تمتد لتخلق لغة رفيعة تتسم بالتكثيف والعمق. الحواس تلعب دور البطولة في هذه النصوص؛ فالأصوات، الروائح، المشاهد، كلها أدوات يستخدمها الكاتب لتشكيل عالمه السردي. في نصوص مثل "صوت المطر" أو "رماد السنين"، يشعر القارئ وكأنه جزء من المشهد، وكأن النصوص لا تسرد حكايات فقط، بل تُستشعر بكل الحواس.

الشخصيات، رغم كونها بشرًا عاديين تعيش صراعات يومية، تتحول إلى رموز تعبر عن قضايا أعمق. سواء كان ذلك من خلال الشعور بالاغتراب التي تعانيه الشخصيات أو من خلال معاناتها مع الذاكرة والجسد والألم، فإن النصوص تتجاوز حكاياتها لتلمس هموم وأشواق الإنسان.

"يجري في ملابسه كالضليل" هي تجربة تضع القارئ أمام مرآة ذاته، تطرح عليه أسئلة عن معنى الحياة، عن جدوى السعي، وعن ثقل الذاكرة. إنها مجموعة ترفض الإجابات الجاهزة، وتدعونا للغوص في أعماق النصوص لنبحث عن إجاباتنا الخاصة.

العنوان "يجري في ملابسه كالضليل" يثير منذ اللحظة الأولى تساؤلات تتعلق بالشخصيات، والمواقف، والمضامين المضمرة في النصوص. كلمة "يجري" تحمل دلالة الحركة المستمرة، بينما "كالضليل" تضيف بُعدًا وجوديًا، يشير إلى حالة من التيه أو الضياع. هذا العنوان لا يقدم إجابة محددة، بل يفتح مجالًا للتأويلات المتعددة، مما يجعله بوابة لدخول عالم المجموعة القصصية.

 في القصة الأولى من المجموعة، يصف الكاتب شخصية تجري هاربة من موقف مأساوي، قائلًا: "اندفعت كالريح، لا تملك إلا ملابسها المبتلة ووجهًا يشبه خرائط المدن المنهكة." هذا الوصف يعكس بوضوح الارتباط بين الحركة الجسدية وحالة الضياع، وهو ما يعكس دلالة العنوان ككل.

يتسم الكاتب بحساسية شديدة تجاه التفاصيل اليومية التي تتحول في نصوصه إلى مشاهد ذات أبعاد ذات مستويات مختلفة. يمكن رصد اهتمامه بعنصر المكان كأحد أبرز ملامح أسلوبه، بالإضافة إلى استثماره للذاكرة كأداة أساسية لبناء الأحداث. رؤيته تبدو وكأنها تمزج بين واقعية مؤلمة وأحلام تهويمية.

في قصة "النافذة المغلقة"، يكتب: "وقف أمام النافذة المغلقة وكأنها بوابة لعالم آخر، لا يرى منه سوى انعكاس صورته المتشظية." هذا الاقتباس يعكس قدرة الكاتب على تحويل عنصر بسيط مثل النافذة إلى رمز للفصل بين الواقع والأحلام.

في القسم الأول من المجموعة، تظهر "النار" كرمز أساسي يحمل ثنائية العذاب والتطهير. الحواس تعمل هنا كنافذة للتجربة الإنسانية، حيث تبرز الأوصاف الحسية كأداة لتعميق التجربة.

في قصة "رماد السنين" نقرأ: "كانت رائحة الدخان تملأ المكان، تخنق أنفاسه بينما تذكره بحرائق الماضي." هنا، الرائحة (كحاسة) تحمل دلالة مزدوجة: الألم والذاكرة، مما يجعل النار رمزًا مركزيًا يعبر عن العذاب والتطهير في آن واحد.

يأتي المكان كعنصر محوري في المجموعة حيث تحتل بورسعيد والمنصورة موقعًا مركزيًا في النصوص، ليس فقط كأماكن جغرافية بل كفضاءات تحمل ذاكرة متشابكة من التجارب الحياتية والإنسانية. تنبض الأماكن في النصوص بالحياة، ويتحول المكان إلى شاهد على تحولات الشخصيات وصراعاتها.

في قصة "شارع البحر"، نقرأ: "كانت أمواج البحر تصطدم بصخور المنصورة كأنها تعاتبها على أسرارها المدفونة." هذا الوصف يربط المكان بالماضي، مما يجعل المنصورة أكثر من مجرد خلفية للسرد.

في قصة "ليالٍ عشر" يتجلى عنصر الزمن كحاضر دائم في النصوص. الزمن في هذه المجموعة ليس خطيًا، بل يتخذ طابعًا دائريًا، حيث يتداخل الماضي مع الحاضر. يعكس هذا البناء السردي رؤية الكاتب للزمن باعتباره تجربة ذاتية وشخصية.

يقول الكاتب في قصة "ساعة الرمل: "كان الزمن يسقط من بين أصابعه كالرمال، لا يستطيع إيقافه ولا تجاوزه." هذا الاقتباس يوضح كيف يُستخدم الزمن كعنصر يعبر عن التوتر بين العجز والأمل.

الذاكرة تُعتبر إحدى الأدوات السردية الأساسية التي يوظفها الكاتب. إذ لا تعمل الذاكرة فقط كوسيلة لاسترجاع الأحداث، بل كعنصر يخلق تجربة  تنبض بالحياة. الشخصيات غالبًا ما تكون غارقة في ذكرياتها، مما يعكس صراعاتها وأنينها.

في قصة "صورة قديمة" يكتب حسين عبد الرحيم: “كانت الصورة على الحائط تحمل ملامح أبيه كما يتذكره، لكنها كانت تخفي في طياتها سنوات من الحزن." هنا يظهر كيف تتحول الأشياء اليومية إلى بوابات للذاكرة.

تتميز لغة السرد في المجموعة بالتكثيف الذي يربط القارئ مباشرة بتجارب الشخصيات. كما يركز الكاتب على الأوصاف البصرية والسمعية، مما يخلق عالمًا غنيًا بالتفاصيل. الحواس هنا ليست مجرد وسيلة إدراك، بل أداة سردية فاعلة.

في قصة "صوت المطر"، يكتب: "كان صوت المطر يقرع على زجاج النافذة وكأنه يُعيد سرد الحكايات القديمة." هنا يتحول الصوت إلى وسيلة لربط ما كان بما هو كائن.

تمثل الأصوات السردية في المجموعة تنوعًا إبداعيًا، حيث يتنقل الكاتب بين الراوي العليم، والراوي الغائب. يخلق هذا التعدد في الأصوات ديناميكية تسهم في تعميق النصوص.

في قصة "الصوت الذي لا يسمع"، يصف الكاتب: "كان صوتها الداخلي يصرخ كمن يريد كسر جدار الصمت، لكنها استمرت في النظر إلى الباب المغلق." هنا يظهر تداخل صوت الراوي مع صوت الشخصية الداخلي، مما يعزز الإحساس بالعزلة.

تعتمد المجموعة على التكثيف كخاصية أساسية لفن القصة القصيرة، حيث يتم اختزال الحكايات في لحظات شديدة التركيز. هذا التكثيف لا يُضعف النصوص، بل يمنحها قوة تكمن في غنى التفاصيل المختارة بعناية.

الرمزية في المجموعة تتراوح بين ارتباطها بالواقع وإدخال عناصر خيالية تضفي طابعًا سحريًا على السرد. الرموز المستخدمة تعبر عن معانٍ أعمق، تتجاوز الواقع المباشر للشخصيات.

في قصة "ظل بلا صاحب"، يقول الكاتب: "كان الظل يتبعها في كل مكان، لكنه لم يكن يشبهها أبدًا." هذا الرمز يعبر عن الهوية والبحث عن الذات، حيث يتحول الظل إلى كيان مستقل.

تتميز المجموعة باستخدام عنصر المفاجأة والتحولات في السرد. الأحداث غالبًا ما تأخذ منحنيات غير متوقعة، مما يحفز القارئ على مواصلة القراءة بفضول دائم.

يستلهم حسين عبد الرحيم في مجموعته من الأسطورة والتراث لخلق عالم غني بالدلالات المتعددة والمختلفة. كما تدمج النصوص بين الحداثة والأصالة، مما يمنحها عمقًا وثراءً.

تناول الكاتب الوحدة والغربة كموضوعين رئيسيين في النصوص، حيث يعاني معظم الشخصيات من شعور بالانعزال، سواء في الأماكن المأهولة أو الخالية.

كما تميزت النصوص  ببنية غير تقليدية، حيث تتداخل الأزمنة بين الماضي والحاضر والمستقبل. هذا التداخل يعكس رؤية الكاتب عن الزمن كحالة شعورية.

في قصة "الساعة المتوقفة"، نقرأ: "كان الوقت عالقًا بين الدقيقة والحركة التالية، لكنه كان كافيًا ليشعر بكل شيء." هنا يتضح كيف يستخدم الكاتب الزمن كأداة للتعبير عن التوتر والشعور الدائم بالقلق.

تأتي النهايات المفتوحة في النصوص لتترك القارئ في حالة من التساؤل، مما يعزز التفاعل مع النصوص. النهاية لا تأتي كإغلاق للحكاية، بل كبداية جديدة.

في قصة "النهاية الأخرى"، ينتهي النص بجملة: "أغمض عينيه، ولم يكن يعرف إن كان الحلم قد بدأ أم انتهى." هذه النهاية تفتح أبواب التأويل دون تقديم إجابة محددة.

ظهرت الطبيعة  في المجموعة كعنصر فاعل في النصوص، ليست مجرد خلفية للأحداث، بل كطرف متداخل في حياة الشخصيات، تعكس مشاعرهم وتشاركهم صراعاتهم وتحولاتهم.

في النهاية، تمثل مجموعة "يجري في ملابسه كالضليل" لحسين عبد الرحيم تجربة جديرة بالقراءة، إذ تتجاوز النصوص حدود القصة القصيرة التقليدية. حرص كاتبها على طرح أسئلة الحياة والموت، الذاكرة والهوية، الأحلام التي لا تتحقق، والأشواق التي لا تهدأ.

اشترك فى النشرة البريدية لتحصل على اهم الاخبار بمجرد نشرها

تابعنا على مواقع التواصل الاجتماعى

السابق الصين في مرمى الاتهام.. دعم الحوثيين بالأسلحة مقابل تحصين سفنها المساء الاخباري ..
التالى سفير سلطنة عمان: التنسيق مستمر مع مصر لمواجهة التحديات الراهنة .. بوابة المساء الاخباري