بعد بداية الكفاح المسلح في فلسطين في منتصف الستينيات، بدأ يترسخ نوع جديد من السينما عُرف باسم السينما الفلسطينية الثورية، قدم خلاله مجموعة من المصورين والمخرجين مجموعة أفلام رصدت الكفاح الوطني في عدة مراحل، وكان البذرة الأولى لما يعرف بـ«وحدة أفلام فلسطين»، والتي ساهمت لاحقًا في تدشين مؤسسة السينما الفلسطينية.
السينما الفلسطينية.. لمحة تاريخية
مؤسسة السينما الفلسطينية كانت تتبع منظمة التحرير الفلسطينية، أنجزت مجموعة من الأفلام المهمة، كان من بينها «لا للحل السلمي» عام 1968، من إخراج مصطفى أبو علي، وصلاح أبو هنود، وهاني جوهرية، وسُلافة مرسال، إضافةً إلى فيلم بالروح بالدم، إنتاج عام 1971، لمصطفى أبو علي، وهو مؤسس سينما الثورة الفلسطينية، وكذلك فيلم وطن الأسلاك الشائكة، إنتاج عام 1980 للمخرج قيس الزبيدي.
أنتجت وحدة أفلام فلسطين ما يُقارب 50 فيلمًا تسجيليًا رصدت خلالها الحراك المسلح ضد الاحتلال، ومعاناة الفلسطينيين في الشتات، ولم تنجز سوى فيلم روائي وحيد هو «عائد إلى حيفا» عام 1982، للمخرج قاسم حَوَل عن رواية الأديب غسان كنفاني؛ لتبدأ هذه المغامرة فصلًا جديدًا بعدها عُرف باسم السينما الجديدة.
يعتبر فيلم عرس الجليل، للمخرج ميشيل خليفي، من الأفلام التأسيسية للسينما الفلسطينية الجديدة. إذ استطاعت الصناعة أن تطور نفسها وتحلق خارج المفاهيم والأطر المستهلكة، لترى الأفلام الفلسطينية العالمية بداية من عام 1987، حيث فاز فيلم خليفي علي جائزة النقاد الدولية في مهرجان كان السينمائي، والجائزة الذهبية في مهرجان سان سيباستيان، والتانيت الذهبي في مهرجان قرطاج سنة 1988.
مع بداية التسعينيات، بدأ المخرج إيليا سليمان نشاطه في السينما الفلسطينية بقصص مغايرة وطريقة مبتكرة في السرد والأسلوب من خلال ثلاثيته الشهيرة «سجل اختفاء، يد إلهية، الزمن الباقي». فاز فيلمه «يد إلهية» بجائزتي لجنة التحكيم "فيبريسي" في مهرجان كان السينمائي، فيما حصد فيلمه الأخير «إن شئت كما في السماء» على جائزتي "فيبريسي" وتنويه خاص من لجنة التحكيم.
وخلال فترة الألفية الثالثة، أخذت السينما الفلسطينية خطوات كبرى نحو العالمية. يُعد فيلم «الجنة الآن» إنتاج عام 2005، للمخرج هاني أبو أسعد، علامة فارقة في تاريخ السينما الفلسطينية، وهو أول فيلم فلسطيني يصل للقائمة القصيرة لـ«الأوسكار» في المنافسة على جائزة أفضل فيلم أجنبي، كما أنه أول فيلم عربي يحصد جائزة جولدن جلوب كأفضل فيلم أجنبي، وأول فيلم فلسطيني يحصل على جائزة مهرجان برلين.
يعد «الجنة الآن» من الأعمال التي فتحت أبواب العالمية أمام مخرجه هاني أبو أسعد، ومن الأفلام المهمة التي توغلت في الدوافع النفسية لمنفذي العمليات الاستشهادية داخل دولة الاحتلال، وتدور أحداث الفيلم حول الليلتين الأخيرتين بحياة شابين فلسطينيين يقرران القيام بعملية استشهادية بهدف لفت انتباه العالم للقضية الفلسطينية والمحاولات المستمرة للعدو لاستئصال جذور الهوية والوعي الوطني.
ويعتبر «عمر» هو ثاني أفلام المخرج هاني أبو أسعد يصل لقائمة ترشيحات الأوسكار عام 2013، بعد فوزه بجائزة مسابقة نظرة ما بمهرجان كان السينمائي. في هذا الشريط، يعاود «أبو أسعد» كشف دوافع حمل السلاح والمقاومة في وجه المحتل، ولكن من خلال حبكة رومانسية رقيقة.
تدور قصة الفيلم حول عامل مخبز يدعى عمر، تفادى رصاص القنص الإسرائيلي يوميًا، وعبر الجدار الفاصل، للقاء حبيبته نادية.
تنقلب الأمور حينما يعتقل العاشق المناضل من أجل الحرية خلال مواجهة عنيفة مع جنود الاحتلال، تؤدي به إلى الاستجواب والقمع، ويعرض الجانب الإسرائيلي على عمر العمل معه مقابل حريته، فيبقى البطل مُمزقًا بين الحياة والرجولة.
في فيلمه الروائي الطويل الخامس، الحائز على جوائز مهرجانات سانت لويس وقرطاج، يُدخلنا المخرج رشيد مشهراوي داخل عالم «أبو ليلى»، القاضي السابق والذي اضطرته ظروف الحرب للعمل كسائق تاكسي، يأخذنا في رحلة داخل سيارته الأجرة على مدار يوم واحد لنرى من منظوره كيف تدب الحياة داخل الضفة الغربية، نشاهد قاطنيها ونتعرف على آمالهم الصغيرة وأحلامهم الكبيرة.
علي الرغم من بساطة الفيلم في تصويره ليوم عابر من حياة سائق تاكسي، إلا أنه رصد بعدسة شاعرية واقع المجتمع الفلسطيني دون فجاجة أو تذييل؛ فهذا البطل المهزوم يجاهد للوصول إلى منزله كي يحتفل بعيد ميلاد صغيرته، لكنه يتعرقل داخل دوائر البيروقراطية والإهمال والفوضى وغياب الذوق العام.
رصد مشهراوي الواقع دون تفلسف أو فوقية، ففاض الفيلم بمشاعر وأحاسيس غنية لشخص يحاول أن ينعم بالقليل من ملذات الحياة مقابل الكثير من الكفاح والصبر والخروج عن النص إذا تطلب الأمر.
فلا عجب إن شاهدت الفيلم وتقبلت المصائب المتعاقبة على رأس بطلنا على أنها استثناء؛ لكننا مخطئون، هذا هو العادي في بلد صار فيه الاستثنائي مألوفًا، وهو ما تجلى في الخاتمة السلسة للفيلم حين أخبرت الزوجة زوجها: «كيف كان يومك؟»، ليرد: «يوم عادي».
من الجلي للمتابعين أن السينما الفلسطينية نضجت بشكل مثير للاهتمام في السنوات الماضية، وذلك فيما يتعلق بالأسلوب المُستخدم لمعالجة قضية الهوية والصراع مع المحتل، فبالنظر إلى شريط المخرج هاني أبو أسعد «الجنة الآن» إنتاج 2005.
وما تقدمه مؤخرًا من أعمال كان آخرها الفيلم الساخر «إن شئت كما في السماء» لإيليا سليمان، نرى أن صُنّاع الأفلام قد نجحوا في الخروج من نمط المعالجة السياسية لموضوعاتهم واستبداله بقالب كوميدي ساخر، مُحمَّلًا بالقضية ذاتها، ما حوّلها لمتعة بصرية وسردية خالصة، نادرًا ما نراها في فيلم عربي.
هذا ما نجح المخرج الفلسطيني سامح زعبي، في توليفه بشريطه الأخير «تل أبيب على نار» لبطليه قيس ناشف وميساء عبد الهادي، والفائز بجائزة أفضل ممثل بمسابقة آفاق ضمن فعاليات مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي.
وتدور أحداثه حول كواليس صناعة مسلسل جاسوسية على طريقة رأفت الهجان، تتفجر خلاله مواقف هزلية تسمح بالسخرية اللاذعة من مخزون الشعارات القومية المتكدسة بقوالب الدراما العربية، واستخلاص الكوميديا من نمط الحياة الآلي في التعامل اليومي مع جنود الاحتلال.
ويعتبر المخرج مهدي فليفل، واحدًا من الأصوات الشابة في السينما الفلسطينية. ففي شريطه القصير المميز «رجل يغرق»، يأخذنا في رحلة خارج أسوار فلسطين السجينة لينقلنا إلى سجن آخر وهو أثينا، حيث يعيش «فاتح» حياة قاسية بلا فرصة عمل، مُحاط أغلب الوقت بالمجرمين الذين يأبون حتى تقديم سيجارة واحدة له تغنيه عن الطعام الذي لا يستطيع تأمينه.
أطلق «فليفل» على الفيلم اسم «رجل يغرق»، مع أنه كان قد غرق بالفعل، فمنذ مجيئه إلى هذه الدنيا وهو يسعى بشتى الطرق أن يتشبث بأي يد تمتد له، حتى عندما حاول أحد اليونانيين تقديم يد العون له يضطر بطلنا لمواجهة سلسلة من الخسائر والتنازلات لم يكن يدرك أنه سيُستدرج إلى فخاخها في يوم ما.
ثلاث عشرة دقيقة فقط كانت كافية لفليفل كي ينقل معاناة فاتح التي لا تنتهي، فاستحق شريطه بجدارة الترشح لجائزة أفضل فيلم بريطاني قصير ضمن جوائز بافتا، كما شارك ضمن عروض المسابقة الرسمية لمهرجان تورنتو السينمائي لعام 2017، وأيضًا بمهرجان كان السينمائي في نفس العام.