بوابة المساء الإخباري

بين منتجع العمى وفضاء الذكاء الاصطناعى! . المساء الاخباري

آراء حرة

علي الفاتح

الإثنين 02/سبتمبر/2024 - 09:55 م

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق

علم متأخرًا أنه ساكن الظلام لا محال، وأن إقامته أبدية ولا مجال أمامه للاعتراض؛ فقرر ألا يسكنه الظلام حتى يصبح مسكنه الجديد، أو بالأحرى العمى، منتجعًا مناخه ربيعى طارد للملل ولا مكان فيه للسكون أو للاستسلام.
قصة هذا الرجل “محمد سامى” الذى سكن العمى مرغمًا ورفض بإرادته أن تسكنه ظلمة العتمة تبهر كل من يعرفها بما لدى الإنسان من طاقة كفيلة أن تجعل العالم حوله سعيدًا متفائلًا مرحًا يعيش “البحبوحة والرفاهية” بكل صورها.
لكنها أيضًا تجعلك تعى كيف تهدر بلادنا ومجتمعاتنا طاقات أبنائها، فتفوت على نفسها فرص التقدم والنمو؛ وينضج بداخلك وعى حزين أن الإنسان الفرد قد ينجو فى مجتمعنا باجتهاده الشخصى فقط لأنه لا منظومة حتى الآن تعمل بتكامل بين عناصرها من أجل تطور الفرد لينعكس ذلك على المجموع والمستقبل.
قبل أيام استمعت لبرنامج الإعلامى القدير أسامة كمال عبر بودكاست التقت فيه بسنارته الصحفية الدقيقة قصة الشاب الكفيف الذى اجتاز عالم الظلام ليعبر إلى فضاء التكنولوجيا الحديثة والذكاء الاصطناعى.
بكل المعايير الصحفية والإعلامية هو وانفراد وسبق، فمحمد سامى أول كفيف فى مصر والعالم العربى على الأقل يصبح عضوًا منتدبًا ومديرًا تنفيذيًا لواحدة من أكبر الشركات العالمية التى تقدم خدمات برامج التكنولوجيا الحديثة والذكاء الاصطناعى للحكومات والشركات الكبيرة والصغيرة وفى مختلف المجالات.
أسئلة كمال وإدارته السهلة للحوار قدمت قصة النجاح هذه ببساطة تمنح المستمع الشعور بأن النجاح ممكن مهما كانت العوائق بشرط وحيد يتعلق بالإنسان نفسه وهو أن يؤمن أنه إنسان قادر على الفعل ومُصر عليه بعناد.
بداية ليس العمى محبسًا لصاحبه ولا هو حياة الشقاء والتعثر فى مطبات الظلام؛ هو على العكس من ذلك كله، وبخبرة شخصية جاوزت الخمسين عامًا، منتجع ينعم فيه الكفيف بنعمة الهدوء والتأمل اللامحدود بعيدًا عن صخب صور القبح وإن كانت أصواتها تصل إلى مسامعه، لكن مخه على الأقل فارغ من مشاهد الازدحام وقبح الشوارع والأهم قبح وجوه اللئام.
فى هذا المنتجع ينطلق الخيال كحصان برى جامح يعوض صاحبه ربما رغبة محمومة بالجرى السريع دون الخوف من الارتطام بحجر أو السقوط فى بالوعة مجارى تركها مسئولو الحى مفتوحة.
الخيال الجامح يعزز قدرة الإنسان على اكتشاف مكامن طاقته وحجم قدرته؛ لذلك لم يستغرق محمد سامى وقتًا طويلًا ليقرر الاستمرار فى دراسة المحاسبة فى كلية التجارة ليعمل بعد تخرجه فى مجالات التسويق لشركات المحمول التى كانت حديثة النشأة حينها.
كان يحلم بالالتحاق بكلية الفنون الجميلة؛ وبسبب زواج الأقارب تلفت شبكية إحدى عينيه بينما هو بالسنة النهائية بالثانوية العامة.
فقد أول حلم فى حياته، لكنه مازال يملك عينًا أخرى ترى فالتحق بكلية التجارة، مر العام الأول بسلام، عين ترى، وعين تكاد تبصر المجسمات لا تقرأ ولا تعرف الملامح ولا التفاصيل.
عينه المبصرة (السليمة) يفقدها بالكامل إثر حادث سير تعرض له فى السنة الثانية.
عميد الكلية أخبره أنه لم يعد بوسعه الاستمرار يدرس علومًا كلها تحتاج البصر، قال له: لن تستطيع يا محمد.
يكتشف الشاب ما لديه من قوة وقدرة داخلية فيقرر الاستمرار ليتخرج فى كلية التجارة عام ١٩٩٨، خرج إلى سوق العمل بربع عين وربما ثمن.
يقول لأسامة كمال: وكأن العمى منحنى عقلًا رقميًا أقوى وأقدر على القيام بالعمليات الحسابية المعقدة بصورة أسرع؛ إنها بركات منتجع العمى الذى سكنه محمد سامى للأبد.
نعم، حول هذا الشاب العمى إلى منتجع لا يعرف الملل أو السكون لكنه يمنح عقله الهدوء اللازم ليمد خياله إلى ما وراء تصورات أغلب من حوله.
تطور فى عمله والتحق بالشركة الألمانية العالمية ساب (SAP) المتخصصة فى التكنولوجيا والذكاء الاصطناعى والتى تقدم خدماتها فى ١٢٠ دولة حول العالم.
دائمًا كان يحقق نتائج أعلى وأكبر من المتوقع فى مجال التسويق فاختارته الشركة الأم ليكون العضو المنتدب والمدير التنفيذى لفرعها الإقليمى (SAP مصر) والتى تقدم للحكومة خدمات البرمجة والتكنولوجيا الحديثة التى تساعد على المزيد من الشفافية والحوكمة فى مجالات التعليم والصحة والصناعة والبترول وشركات قطاع الأعمال ولديها قصة نجاح معروفة فى تطوير خدمات الهيئة القومية للبريد المصرى، إلى جانب ما تقدمه لشركات القطاع الخاص الكبيرة والصغيرة.
ولأنه يدرك حجم معاناة زملائه فى منتجع العمى عمد إلى دعم وتعزيز من يعملون لديه فى الشركة من ذوى الإعاقة البصرية وغيرها فقط بإتاحة الفرصة أمامهم ليقدموا أقصى ما لديهم من إبداع.
يقول: فوجئت بنتائج مذهلة ومبهرة؛ يتحدث أول كفيف يخترق عالم الذكاء الاصطناعى عن تطوير البرامج الناطقة التى تساعد المكفوفين على قراءة المواقع والمواد المتاحة ببرنامج الوورد حيث أصبحت هذه البرامج اليوم تقرأ الجداول ومحتوى الصور بل وتقدم ملخصًا للجرافيك يساعد الكفيف الذى يعمل محاسبًا أو فى إدارة الموارد البشرية على اتخاذ القرار.
محمد سامى هذا الكفيف الذى اخترق عالم الذكاء الاصطناعى ويشرف على تقديم خدماته وبرامجه للحكومة وأجهزتها التنفيذية وكبريات الشركات لا يغير فقط الصورة الذهنية السلبية السائدة عن العميان وضعاف البصر وإنما يقدم للدولة وللحكومة وللمجتمع نموذجًا لقدرة العميان على النجاح والعطاء فى كل مناحى الحياة فالأعمى المتفوق والمبدع فى بلادنا موسيقار عظيم مثل عمار الشريعى أو أديب وعالم مثل عميد الأدب العربى طه حسين أو حتى قارىء بديع مثل محمد رفعت.
سامى يؤكد أن الأعمى يستطيع مواكبة زمانه فإذا كانت التكنولوجيا والبرمجة والذكاء الاصطناعى هى مفردات هذا العصر ومقومات الذهاب إلى المستقبل فإن الكفيف أيضًا يستطيع أن يبدع فى هذه المجالات مثله مثل أى إنسان وأعتقد أن اختيار  الألمان له فى هذا المنصب وهم المعروفين بدقتهم وحيادهم وانحيازهم فقط لمعايير الكفاءة شهادة ليس فقط لهذا الشاب المصرى وإنما لكل شاب كفيف سكن الظلام مرغمًا ورفض أن تسكنه العتمة بإرادته.

أخبار متعلقة :