موقع بوابة المساء الاخباري

سامح قاسم يكتب: سيد درويش.. من ألحان الفقراء إلى صوت الشعب المساء الاخباري ..

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق

يُعد سيد درويش واحدًا من أعظم المبدعين في تاريخ الموسيقى العربية، وأحد أولئك الذين نجحوا في تطوير الفن التقليدي إلى شكل جديد يعكس تطلعات الأمة وصوتها الحقيقي. بعبقريته الفطرية وشغفه العميق بفنه، أحدث درويش انقلابًا موسيقيًا واجتماعيًا في فترة حرجة من التاريخ المصري، حيث لعبت أغانيه دورًا في تشكيل الوعي الوطني والاجتماعي في مرحلة ما قبل ثورة 1919، ليصبح صوته رمزًا للتغيير والثورة. يعتبر درويش مؤسس الموسيقى العربية الحديثة، وقد ترك إرثًا لا يُنسى ساهم في تطور الفن العربي بشكل غير مسبوق. إن تأثيره يمتد ليس فقط على مستوى الموسيقى، بل أيضًا على مستوى الحركة الثقافية والاجتماعية في مصر خلال فترة النهضة الوطنية.

وُلد سيد درويش عام 1892 في الإسكندرية، وهي مدينة كانت آنذاك مركزًا للتنوع الثقافي والانفتاح على العالم الخارجي. بدأ شغفه بالموسيقى يظهر في سن مبكرة، حيث تأثر بالأغاني الشعبية التي كانت تُغنى في الأحياء الفقيرة والمقاهي. كانت البيئة التي نشأ فيها مليئة بالفن الشعبي، مما جعله يمتص تفاصيل هذا الفن، ليتمكن لاحقًا من تطويره بأسلوبه الفريد.

التحق سيد درويش بالأزهر لفترة قصيرة، ولكنه لم يستطع أن يبتعد عن حبه الحقيقي: الموسيقى. وسرعان ما غادر دراسته الدينية ليكرس حياته بالكامل للفن، حيث التحق بعدد من الفرق الموسيقية الصغيرة، ليبدأ في تقديم أعماله الأولى التي تحمل سمات مختلفة عما كان مألوفًا في الموسيقى المصرية التقليدية آنذاك.

في وقت كان الفن العربي مشبعًا بالقوالب التقليدية، جاء سيد درويش ليكسر هذه التقاليد بقوة، معبرًا عن مشاعر الناس وآلامهم وأفراحهم بشكل غير مسبوق. كان التلحين الغنائي في عصره مقتصرًا على القوالب التقليدية للمقامات الموسيقية، وتكرار نفس الأنماط والألحان المتوارثة. بيد أن درويش أدرك أن الموسيقى يجب أن تكون تعبيرًا حيًا عن الإنسان، وأنها لا يمكن أن تستمر كفن نخبة يعبر عن الطبقات العليا فقط.

من هنا، بدأ سيد درويش في تقديم "الطقطوقة" والمونولوج الغنائي كأشكال جديدة، حيث كانت هذه الأشكال أكثر مرونة وسهولة في توصيل المشاعر والأفكار. ويقول عنه الناقد الموسيقي محمود كامل: "إن سيد درويش أدرك أن الموسيقى يمكن أن تكون وسيلة للتعبير عن مشاعر الناس ومشاكلهم اليومية، بدلًا من أن تظل مجرد زخارف صوتية".

كانت موسيقى سيد درويش تحمل روح الثورة والتغيير، إذ استخدمها كأداة للتعبير عن الهموم الوطنية والاجتماعية، مما جعل فنه محبوبًا لدى العامة والنخبة على حد سواء. ولم يكن درويش فقط ملحنًا عبقريًا، بل كان أيضًا صاحب رؤية موسيقية تحررية، فقد مزج بين الأنماط الموسيقية الشرقية والغربية، مثلما فعل في أعماله المسرحية التي استلهم فيها من الأوبرا والجاز، ليخلق موسيقى مبتكرة تعبر عن الحاضر والمستقبل.

يعتبر الكثيرون أن سيد درويش هو الأب الروحي للنهضة الموسيقية المصرية الحديثة، حيث كانت أعماله بمثابة حجر الأساس الذي بنى عليه جيل لاحق من الملحنين والمطربين أسلوبهم. وقد تأثر به كبار الفنانين الذين جاءوا بعده، مثل محمد عبد الوهاب وأم كلثوم وزكريا أحمد. يقول عبد الوهاب في إحدى مقابلاته: "سيد درويش كان المعلم الأول، تعلمت منه كيف أكون نفسي في الموسيقى، وكيف أترجم مشاعر الناس إلى نغمات".

كانت أعمال سيد درويش تعكس بشفافية واضحة تلك المرحلة الحرجة التي عاشها الشعب المصري تحت وطأة الاحتلال الإنجليزي. ولعل أكثر ما يميز فنه هو تلك الجرأة في تقديم أغاني سياسية واجتماعية مباشرة مثل "بلادي بلادي" و"قوم يا مصري"، والتي أصبحت فيما بعد أغاني وطنية يتردد صداها في المظاهرات والشوارع والميادين. في هذا السياق، يعقب المؤرخ الموسيقي فريدريك لاغرانج قائلًا: "لم تكن أغاني درويش مجرد تسلية، بل كانت وسيلة لتوحيد الصوت المصري في وقت كانت الأمة تبحث عن هويتها".

من أبرز المحطات في حياة سيد درويش الفنية كانت مشاركته الفعالة في ثورة 1919. إذ كانت أغانيه تُستخدم كشعارات في المظاهرات، وكان الناس يرددونها بحماس لأنها عبرت عن طموحاتهم وآمالهم. وقد أصبحت أغنيته "قوم يا مصري" رمزًا للصمود والتحدي، حيث غناها العمال والفلاحون والطلاب في مختلف المواقف الوطنية.
وفي هذا السياق، يعكس دور درويش الريادي في إحياء الحس الوطني من خلال فنه، حيث يمكننا القول إنه لم يكن مجرد فنان بل كان أيضًا مناضلًا باللحن، جسّد في أغانيه آلام المصريين وآمالهم في الاستقلال والحرية.

لم يكتفِ سيد درويش بالأغاني الوطنية والاجتماعية، بل كان له إسهام كبير في تطوير المسرح الغنائي. كان ذلك المجال جديدا بالنسبة للفن العربي، وقد نجح درويش في تقديمه بشكل مبتكر، مما أضفى على الموسيقى المصرية بعدًا مسرحيًا جديدًا. وقد قاد مسرحيات مثل "العشرة الطيبة" و"شهرزاد" و"الباروكة" التي نالت إعجاب الجمهور والنقاد على حد سواء.
في مسرحياته، استطاع درويش أن يمزج بين الموسيقى والدراما بطريقة لم تكن معهودة في الموسيقى العربية. كان يُلحن المشاهد الدرامية كما لو كانت قصصًا موسيقية تروي عبر الألحان والتعبيرات الصوتية المتنوعة. وبذلك أرسى درويش قواعد جديدة للأوبريت الغنائي، فتأثرت به الأجيال اللاحقة من الملحنين والمطربين.

إلى جانب إسهاماته في تطوير الفن المسرحي والغنائي، كان سيد درويش حريصًا على استلهام الموسيقى الشعبية والأغاني التراثية، وهو ما جعل موسيقاه تلقى قبولًا واسعًا لدى كافة الطبقات الاجتماعية. كان يتنقل بين الأحياء الشعبية والمقاهي، يستمع لأغاني العمال والفلاحين والبسطاء، ثم يعيد صياغتها في قوالب موسيقية مبتكرة.

كانت موسيقاه قريبة من الناس لأنها كانت تعبر عنهم وعن حياتهم اليومية. وقد استخدم درويش الموسيقى الشعبية كأساس لصياغة رؤيته الموسيقية الحديثة، فجعل من الأغاني الشعبية أداة للتعبير الفني الراقي، وليس مجرد تراث أو موروث. يقول المؤرخ  حسين فوزي: "لقد استطاع سيد درويش أن يأخذ من التراث الشعبي أروع عناصره، وأن يدمجها في سياق موسيقي جديد، جعله أقرب للناس وأكثر عمقًا في نفس الوقت".

رحل سيد درويش عن عالمنا في سن مبكرة عام 1923، عن عمر يناهز الواحد والثلاثين عامًا، وهو في أوج عطائه الفني. وقد كانت وفاته صدمة كبيرة للجمهور وللوسط الفني. لكن رغم قصر حياته، ترك إرثًا فنيًا هائلًا، جعل منه أسطورة في الموسيقى العربية.
لم يتوقف تأثير سيد درويش عند جيله، بل استمر لسنوات طويلة بعد وفاته. فقد كانت أعماله تلهم الأجيال اللاحقة من الملحنين والمطربين، الذين سلكوا نهجه في تقديم الموسيقى كلغة تعبير عن الإنسان والمجتمع. ويمكن القول إن سيد درويش فتح الباب أمام نهضة موسيقية كاملة، أسهمت في تحويل الموسيقى العربية من مجرد فن ترفيهي إلى وسيلة تعبير اجتماعي وسياسي. رحل سيد درويش بعدما ترك بصمته العميقة في تاريخ الفن، ليظل اسمه حاضرًا في الذاكرة الجمعية كرمز للإبداع والتجديد والوطنية.

أخبار متعلقة :