تجيد الولايات المتحدة لعبة التناقض عندما يتعلق الأمر بالعدالة الدولية، فبينما تظهر حماسة كبيرة لدعم مذكرات اعتقال صادرة ضد شخصيات مثل عمر البشير وفلاديمير بوتين، تنقلب الموازين تماما حين يتعلق الأمر بشخصيات مثل بنيامين نتنياهو، لتكشف لنا كيف أن العدالة فى نظر السياسة الأمريكية ليست سوى مسرح تعزف عليه الألحان وفقا للمصالح.
العالم سيضحك عليكم - بهذه العبارة الساخرة، استنكر السيناتور اليهودى الأمريكى بيرنى ساندرز، موقف زملائه خلال إحدى جلسات مجلس الشيوخ الذين صوتوا بأغلبية ضد اقتراح قطع الدعم التسليحى لإسرائيل. تساءل ساندرز كيف يمكن للمرء أن يعارض انتهاكات حقوق الإنسان فى دول مثل إيران والصين وروسيا، بينما يدافع فى الوقت نفسه عن السياسات الإسرائيلية فى غزة، حيث تتهم إسرائيل بارتكاب أعمال إبادة جماعية.
فى ظل دعم وحماية أمريكية تمثلت فى استخدام الدولة الرعاية للكيان المحتل حق النقض «الفيتو» أربع مرات لمنع أى قرار من شأنه أن يفرض وقفا فوريا للقتال فى غزة، مما يوفر لإسرائيل كافة السبل لاستكمال سعيها فى الأرض وإفسادها كل أخضر ويابس، إلا أن موقف محكمة الجنايات الدولية التى أصدرت مذكرات اعتقال بحق رئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع المقال يوآف جالانت فاجأ الجميع، حيث لم يسبق لمثل هذه القرارات أن صدرت بحق مسئولين من دولة حليفة للولايات المتحدة.
فور الإعلان أثار قرار المحكمة حساسية الإدارة الأمريكية وتوالت ردود الفعل الرافضة والمستنكرة والمتوعدة سريعا، بدأها الرئيس بايدن بإدانة القرار، تبعه وزير الخارجية الأمريكى الذى وصف دعوى الإبادة الجماعية نفسها بأنها لا تستند على أى أساس قانونى، وتوعد المرشح لمنصب مستشار الأمن القومى فى إدارة ترامب المحكمة، مشيرا إلى أن إسرائيل تدافع عن نفسها ضد ما وصفهم بـ«الإرهابيين»، وهدد برد قوى فى يناير القادم عندما يتسلم ترامب مقاليد منصبه، كما هدد العديد من أعضاء الكونجرس الأمريكى المحكمة الجنائية الدولية بمعاقبة أعضائها ولوحوا باستخدام «قانون غزو لاهاي» لعام ٢٠٠٢ ضد الدول التى قد تتعاون مع المحكمة.
فلسطين، الدولة التى انضمت إلى نظام روما الأساسى فى عام ٢٠١٥، - الوثيقة التى أنشأت المحكمة الجنائية الدولية فى عام ١٩٩٨ فى المؤتمر الذى عقد فى روما، إيطاليا - منحت المحكمة الولاية القضائية للنظر فى الجرائم التى ترتكب على أراضيها المحتلة منذ ١٩٦٧، حتى لو كانت إسرائيل، الدولة غير العضو، هى من ارتكب تلك الجرائم.
تعتبر قرارات المحكمة الجنائية الدولية غير قابلة للاستئناف ونهائية، وبتالى يتطلب من الدول الـ ١٢٤ الأعضاء التعاون فى تنفيذ مذكرة التوقيف الصادرة بحق نتنياهو وجالانت، ويفترض أن تكون تلك الدول ملزمة باعتقال هؤلاء الأشخاص إذا تواجدوا على أراضيها وتقديمهم إلى المحكمة فى لاهاى، مع ذلك، يبقى تنفيذ هذه الأوامر رهينا بتعاون الدول المعنية وقرارها السياسى، على سبيل المثال أبدت أمريكا والمجر وألمانيا رفضها تنفيذ القرار فى حين أبدت عدد من الدول مثل هولندا وبلجيكا وإيطاليا وكندا وإسبانيا والنرويج وفرنسا التزامها بتنفيذ قرارات المحكمة.
التباين فى الاستجابة لتطبيق قرارات المحكمة يأتى كون الدول الأعضاء يمكنها أن تعبر عن عدم التزامها أو تعارضها مع أوامر المحكمة لأسباب متنوعة، منها الضغوطات الخارجية أو الاعتبارات المتعلقة بالسيادة الوطنية، مثال على ذلك، فى عام ٢٠١٥ حينما رفضت جنوب إفريقيا تسليم عمر البشير، بالتالى، بالرغم من أن الشكليات القانونية تشير إلى واجب تنفيذ هذه الأوامر، تبقى الأبعاد السياسية والدبلوماسية لها دور كبير فى إمكانية تطبيقها على أرض الواقع.
لم يكن صدور مذكرات الاعتقال مجرد إجراء قانونى عابر، بل كان له وقع الصدمة الكبرى على إسرائيل، كما وصفته العديد من وسائل الإعلام الغربية. هذا التطور لم يترك مجالا لإسرائيل لإنكار أو تجاهل المسئولية التى تثقل كاهلها، خاصة فى ظل موجة الغضب الدولى المتصاعدة ضد الانتهاكات التى ارتكبتها حكومة نتنياهو، كذلك، لم تعد إسرائيل قادرة على تسويق ذرائعها التقليدية أو الاختباء خلف شعارات الحماية الذاتية، فقد أسقطت مذكرات الاعتقال الحصانة المعنوية والسياسية التى ما دام ادعت امتلاكها.
آثار الحكم الصادر من المحكمة لا تقف عند حدود إسرائيل وحدها، بل تنتشر كدوائر الماء التى تتمدد مع كل موجة، لتصل إلى حلفائها الذين ما دام حاولوا فصل دعمهم العسكرى عن جرائم الحرب التى ترتكب. لكن اليوم، باتوا فى مواجهة حقيقة ثقيلة لا يمكن تجاهلها؛ فالدم الفلسطينى الذى يسيل على الأسلحة التى أرسلوها أصبح شهادة دامغة لا يمكن إسكاتها. والآن، الخوف يتسلل إلى أروقة صانعى القرار فى تلك الدول، خشية أن تعاد صياغة خرائط الاتهام لتشملهم، وأن تتسع دائرة المساءلة لتطال مسئولين كانوا يظنون أنفسهم فى مأمن.
هذه القرارات أضفت دعما دوليا جديدا يعزز الجهود الرامية لتحقيق العدالة فى مسار القضية الفلسطينية، وأصبح العالم الآن أكثر إدراكا لحجم المعاناة الفلسطينية، وأكثر استعدادا لمساءلة المسئولين عن هذه الجرائم، فى خطوة تعيد تشكيل سردية الظلم، وتمنح الأمل بمستقبل يحمل إنصافا طال انتظاره.
أخبار متعلقة :