يمثل العنف المنظم نقمة ابتليت بها البشرية منذ العصر الحجري الحديث على الأقل، وقد عانى القرن العشرون من حربين عالميتين مدمرتين بشكل هائل، أدت كل واحدة منهما إلى مشاريع كبرى تالية للحرب، والتي هدفت إلى الحيلولة دون وقوعها مرة أخرى، نجح المنتصرون في الحرب العالمية الثانية إلى حد كبير في جعل أوروبا منظمة سلام، لكنهم لم ينجحوا في درء أكثر من خمسين حربًا بين الدول، والتي نشبت في بقية أجزاء العالم خلال العقود الستة الماضية، أدت هذه الحروب "الصغيرة" إلى إهدار كثير من الأرواح والموارد التي كان في الإمكان توجيهها بصورة أكثر ربحية إلى التعليم، والرعاية الاجتماعية والتنمية، تسبب التدخل الأنجلو – الأمريكي في العراق في إزهاق أرواح ما بين 600 ألف إلى مليون نسمة، كما كلف الولايات المتحدة أكثر من ثلاثة تريليونات دولار إذا تضمنت التكلفة المزايا والرعاية الصحية التي سيحصل عليها قدامى المحاربين.
هناك إجماع بين العلماء على أن الحرب بين الدول في انخفاض – على عكس العنف داخل الدول، فعدد الحروب التي نشبت بين الدول، والحروب الاستعمارية والأهلية خلال العقود التي تلت العام 1945، انتهت حروب الاستقلال من الاستعمار في ثمانينيات القرن العشرين، كما أظهرت الحروب الأهلية انخفاضا حادًا بعد انتهاء الحرب الباردة، وعلى أي حال، فقد اشتعلت العديد من الصراعات الأهلية المريرة، بما في ذلك جولات العنف المتعلقة بتفكك يوغسلافيا، بحلول نهاية الحرب الباردة، وفتك الاتحاد السوفيتي وانهيار الأنظمة الشيوعية الأخرى، أما الحروب بين الدول وعددها قليل نسبيا، فتظهر انخفاضا طفيفا، وإذا انتهجنا منظورا تاريخيا أطول، فسنجد أن تواتر الحرب ظل في انخفاض طوال العصر الحديث، وكانت العقود التي تلت العام 1945 الأكثر سلمية في التاريخ المسجل من حيث عدد الحروب بين الدول، وحجم الخسائر في الأرواح التي نجمت عنها.
بيد أنه يجب تقييم هذه النتيجة المشجعة مقابل الحقيقة المتشائمة التي تشير إلى أن الحروب الكبرى في القرن العشرين كانت في كثير من الأحيان أكثر تكلفة بكثير من سابقاتها، كانت الحربان العالميتان الأولى والثانية أكثر الحروب تكلفة في التاريخ، فقد نتج عنهما ما لا يقل عن 10.4 و50 مليون قتيل على الترتيب، أدى الحصار الاقتصادي لألمانيا وحلفائها في الحرب العالمية الأولى إلى إضعاف مقاومة السكان المدنيين بشدة لجائحة الإنفلونزا التي أعقبتها مباشرة، والتي يقدر أنها فتكت بنحو 1.1 مليون أوروبي، ويقدر أن حرب الهند الصينية (1964-1978) ربما أودت بحياة 1.2 مليون فيتنامى، كما فقدت فيها 58 ألف أمريكي أرواحهم، نتج عن الحرب بين إيران والعراق (1980-1988) أكثر من 1.1 مليون قتيل.
نحن لا نحكم على معدل إماتة المُمرضات (مسببات المرض: pathogens) من حيث عدد مرات إصابتها للسكان بالعدوى، بل على النسبة المئوية للأشخاص التي تفتك بهم، ومن هذا المنظور تصبح الحرب في القرن العشرين أشد فتكا، حتى لو كان عدد مرات اندلاعها أقل، وإذا شملنا الحروب داخل الدول، وعمليات التطهير العرقي المحلية، وعمليات التطهير السياسي والعرقي، فإن معدلي وقوع وإماتته العنف السياسي سيرتفعان إلى حد كبير، وبقدر روبرت ماكنمار Mc Namara أن 160 مليون شخص قد قتلوا في أعمال عنف جرت خلال القرن العشرين، وبالتالي فإن نتائجنا التجريبية المطمئنة ليست مطمئنة في نهاية المطاف.
وفى مقابل هذا التشاؤم يمكننا حشد حقيقة مغايرة قوية: عدد الأشخاص الذين لقوا حتفهم خلال الحرب النووية بين القوى العظمى، في خمسينيات القرن العشرين، عندما كانت الحرب الباردة في أوجها، وجهت الولايات المتحدة أسلحتها النووية على المدن السوفيتية والصينية، كان من التوقع أن تؤدى الخطة التشغيلية المتكاملة (SIOP)، التي أعدتها القيادة الاستراتيجية للقوات الجوية، إلى تكبيد الكتلة السوفيتية خسائر تتراوح بين 360و 525 مليون نسمة خلال الأسبوع الأول من الحرب.
ومع ازدياد دقة نظم الإطلاق، صار في وسع القوى العظمى استخدام رؤوس حربية أقل قوة لتدمير الأهداف، مما أدى إلى تحول تركيزها من السكان إلى الأصول العسكرية والبنية التحتية الاقتصادية، بيد أن هذا لم يُحدث فرقًا كبيرًا في الممارسة العملية، وفى أواخر سبعينيات القرن العشرين شملت مجموعة أهداف الولايات المتحدة أكبر 200 سوفيتية، و80% من المدن السوفيتية التي يزيد عدد سكانها عن 25 ألف نسمة وفقًا لتشاركها في المواقع مع أهداف عسكرية وصناعية. وكان من المتوقع هجوم مضاد شامل أن يقتل ما بين 50 و100 مليون سوفيتي، وهذا الرقم لا يشمل الخسائر الناجمة عن الهجمات على أوروبا الشرقية، بلغ عدد الأسلحة النووية في ترسانات القوى العظمى نحو 70 ألفا في ذروته في منتصف ثمانينيات القرن العشرين، بيد أن حربا نووية متبادلة واسعة النطاق كانت ستفضي إلى نتائج أشد تدميرًا. ونجد أن بعض العلماء لا سيما كارل ساغان Sagan، كانوا يشعرون بالقلق من أن مثل هذه الحروب قد تهدد الحياة البشرية بأكملها عن طريق إحداث شتاء نووي Nuclear winter.
قد تكون وتيرة الحرب في انخفاض، لكن الحروب المدمرة لا تزال تحدث، فحروب هذه الأيام وحشية ومهلكة وتصل إلى كل مكان، إنها حروب كلامية وعسكرية، سياسية وثقافية، فردية ودولية، محلية وعالمية، إنها حروب متناقضة، لكن يوجد بينها شيء مشترك هو أنها حروب همجية.
من هنا تأتى أهمية الكتاب الذي وضعة ريتشارد نيد ليبو Richard Ned lebow الأستاذ الفخري في النظرية السياسية الدولية في قسم دراسات الحرب في كينجز كوليدج لندن وأستاذ فخري رئاسي في كلية دارتموث بعنوان (لماذا تتحارب الأمم؟ دوافع الحرب في الماضي والمستقبل) والذي نقله إلى العربية إيهاب عبد الرحيم علي، وهو ما سنحاول التعرف على تفاصيل الإجابة عن هذه المسألة المعقدة والكبيرة في سلسلة المقالات القادمة.
وللحديث بقية
أخبار متعلقة :