نجس

اليمن: نبتة القات تغرق أمة كاملة في الإدمان وتلتهم مزارع البن العريقة - المساء الاخباري

ننشر لكم من خلال موقعكم " المساء الاخباري"

القات في اليمن يباع على الطرقات

من سفوح الجبال إلى أسواق المدن، يمتد المشهد بين الباعة والمشترين المتلهفين، يبحث اليمنيون عن أوراق نبتة مميزة تُعتبر جزءاً أساسياً من حياتهم اليومية –وهي القات. لكنها ليست مجرد نبتة مخدرة عابرة، بل هي جزء من مشهد أكثر تعقيداً، مشهد يعكس حال البلاد الاجتماعية والاقتصادية والصحية. وفيما تستمر زراعة القات في ابتلاع المساحات الزراعية، تتراجع زراعة البن اليمني العريق، تاركة خلفها مزارعين وأراضي وذكريات مرتبطة بمجد القهوة اليمنية الذي كان يوماً رمزاً وطنياً للتجارة اليمنية ينطلق من ميناء المخا إلى العالم.

في سوق مزدحم بتعز، يتجول حمود سلطان، شاب يمني لا يزال في العشرينات من عمره، لكنه يعتبر القات جزءًا أساسيًا من يومه، حيث يُمضي معظمه في شراء حزمة قات جيدة. يتحدث حمود بلهجة ممتنة للقات قائلاً: “أذهب يوميًا إلى سوق القات، أختار أوراق القات بعناية، ثم أقضي بقية اليوم في جلسة تخزين مع الأصدقاء.”
ويضيف بحماس أن كل يوم يشهد تفاوتًا في أسعار القات وجودته، حيث يتحول الشراء إلى عملية تفاوض مع الباعة في الأسواق، ويشير إلى أهمية معرفة الأنواع المختلفة من القات، مثل “الماوية” و”الجمام” و”القطال”، لتحديد الجودة التي تتناسب مع ميزانيته.

هذا الإقبال المتزايد على القات دفع بأسعارها إلى الارتفاع، وهو ما يثقل كاهل المستهلكين. “تصل أسعار القات أحيانًا إلى 20 ألف ريال يمني للحزمة الواحدة”، يقول حمود بتذمر، مشيرًا إلى أنه رغم ذلك، يُعتبر القات جزءًا لا يمكن التخلي عنه في يومه. ويمضي الوقت سريعًا في جلسات التخزين، حيث يمكن أن تبدأ بعد الغداء وتستمر حتى الليل، مما يؤدي إلى ضياع نصف ساعات العمل لدى العديد من اليمنيين، الأمر الذي يعمق التحديات الاقتصادية للبلاد.”

مأزق الإدمان

في الوقت الذي لا يزال يستمتع فيه حمود بتخزين القات يوميا نجح منتصر، أحد مستهلكي القات منذ سن مبكرة، في الإقلاع أخيرا عن القات. يروي منتصر تجربته مع هذه النبتة التي كانت في يوما ما ملاذه اليومي في السراء والضراء، لكنه أحسن بخطرها عندما بدأ يشعر بتدهور صحته وتضرر وظائفه الحيوية. يقول منتصر: “شعرت أن القات بدأ يؤثر على صحتي، فقد تسبب لي بآلام في المعدة، واضطرابات في النوم، وحتى مشاكل في اللثة والأسنان حيث بدأت لثتي تنزف وأسناني تصاب بالسواد.”كانت هذه التأثيرات الصحية بمثابة ناقوس خطر دفعه للتفكير في الإقلاع عن هذه العادة.

لكن رحلة الإقلاع لم تكن سهلة، فقد حاول منتصر عدة مرات التوقف عن تخزين القات، لكنه كان يعود إليه بعد يومين أو ثلاثة بسبب شعوره بالملل وصعوبة التخلص من هذه العادة المتأصلة. في النهاية، قرر الالتزام بمحاولة جادة، فبدأ يقضي وقته مع أصدقاء لا يتناولون القات ويشغل نفسه بنشاطات جديدة. يقول: “أصبحت أخرج أكثر مع أصدقائي، وأقضي وقتاً في الكافيهات بدلاً من جلسات القات.” بعد نجاحه في الإقلاع، لاحظ منتصر تحسناً كبيراً في حالته الجسدية والنفسية، حيث أصبح ينام ويستيقظ بانتظام، وبدأ بتناول أطعمة صحية مثل الفواكه والخضروات، مما ساعده على استعادة نشاطه وتحسين صحته بشكل عام.

أحد حقول القات في محافظة تعز اليمنية، أكتوبر 2024.

تأثير المبيدات على الصحة

يكشف الدكتور آمين المزاحم طبيب مختص بالأمراض السرطانية، عن الجانب المظلم  لإستهلاك القات على الصحة، فيقول أن “المبيدات التي تُستخدم بكثافة في زراعة القات أصبحت عاملًا رئيسيًا في انتشار أمراض السرطان.” ويشير الحسني إلى أن بعض مستهلكي القات يقولون إنهم يستطيعون شم رائحة المبيدات أثناء التخزين، مما يشير إلى خطر كبير على صحتهم.

ويضيف المزاحم: “نلاحظ الآن زيادة في حالات سرطان المعدة والفم في اليمن، خاصة بين فئات الشباب، وهذه الأورام مرتبطة بشكل مباشر بتناول القات الذي يحتوي على مبيدات كيميائية.”ويؤكد أن زيادة استهلاك المبيدات في القات يعكس غياب الرقابة، حيث يستغل بعض المزارعين هذه المواد لزيادة الإنتاجية، مما يزيد من خطورة استهلاك القات.”

المزاحم يشدد على الحاجة إلى حملات توعية واسعة للمزارعين والمستهلكين على حد سواء، قائلاً: “نحتاج إلى ثقافة توعوية حقيقية تساعد في حماية الناس من أخطار المبيدات المستخدمة.” ويشير إلى دور المؤسسات البحثية في توثيق حالات الإصابة بالسرطان المرتبطة بالمبيدات لتوفير بيانات دقيقة تمكّن من اتخاذ قرارات وقائية مناسبة.

لماذا يختار المزارعون القات على حساب البن؟

عبد الله أحمد علي، مزارع من قرية حدي بمحافظة تعز، يشكل نموذجاً للعديد من المزارعين الذين تخلوا عن زراعة البن وتوجهوا نحو زراعة القات. يوضح عبد الله أن السبب الأساسي يكمن في “استمرارية الطلب على القات طوال العام”، مما يجعله أكثر مردودية مقارنة بالبن. فالبن، على عكس القات، يملك موسماً واحداً، بينما يزرع القات ويحصد ويباع على مدار السنة، مما يعزز الاستقرار الاقتصادي للمزارعين الذين يعتمدون على محصوله. “نحصد القات أربع إلى خمس مرات سنويًا، بينما البن موسمه مرة أو مرتين”، يضيف عبد الله، وهو يقلب أوراق القات بفخر، ليظهر كيف أصبح هذا النبات جزءاً من تراث عائلته منذ أجيال.

لكنه يدرك كذلك التحديات البيئية التي يفرضها القات على الموارد المائية، حيث يوضح أن “القات يتطلب كمية كبيرة من المياه، بمعدل 2000 لتر شهريًا لعشرين شجرة.” ومع ندرة المياه الجوفية في اليمن، ازدادت صعوبة الوصول إلى الماء، وأصبح المزارعون يحفرون آبارًا بعمق يصل إلى خمسين مترًا أحيانًا، مقارنةً بعمق عشرة أمتار في السابق. يقول عبد الله: “القات شجرة شرهة للماء، لكن لا يمكنني التخلي عن زراعته، فهو يضمن لي دخلاً ثابتًا”.

أصالة البن اليمني: رحلة عبد السلام مع زراعة البن

بينما يتجه العديد من المزارعين نحو القات، يفضل عبد السلام المقطري، مزارع من تعز، زراعة البن، التي يراها رمزًا للأصالة اليمنية. يصف عبد السلام شجرة البن بأنها “شجرة مباركة ذات قدسية خاصة”، مشيراً إلى أن البن كان يشكل عماد اقتصاد العائلة وأساس تراثهم لعدة أجيال. ويعتبر عبد السلام زراعة البن مهمة، ليس فقط لأنها جزء من هويته، ولكن أيضًا لأنها تحتاج كميات أقل من المياه، مما يجعلها زراعة مستدامة بيئيًا.

عبد السلام المقطري بين أشجار البن، تعز أكتوبر 2024

في جلسة هادئة بين أشجار البن، يقول عبد السلام: “رغم التحديات الاقتصادية، أفضل زراعة البن لأنها تمثل هويتنا وتاريخنا.” ويضيف بأن تحول بعض المزارعين إلى القات بحثًا عن أرباح سريعة ترك أثرًا سلبيًا على زراعة البن، كما يتقلص موسم الحصاد نتيجة قلة الأمطار وتغير المناخ. ويعرب عبد السلام عن أسفه، إذ يقول: “تاريخ البن في بلادنا كبير، ميناء المخا كان المصدر الرئيسي للبن إلى أنحاء العالم، واليوم نعاني بسبب إهمال هذا المحصول الثمين”.

جهود محدودة للحفاظ على البن وتطويره

في محاولة للحفاظ على زراعة البن، يعمل مكتب الزراعة والري في تعز على تعزيز زراعة المحاصيل البديلة مثل البن والمانجو واللوز، في إطار مبادرة وطنية تسعى إلى تثمين المحاصيل المستدامة بيئيًا واقتصاديًا. ويوضح مدير المكتب فضل عبد الجليل أنهم ينفذون إجراءات لتشجيع المزارعين على العودة إلى زراعة البن عبر توفير شتلات مجانية ومنع إدخال غروس القات إلى المحافظة.

لكن المكتب يواجه تحديات لوجستية ومادية، حيث يشرح عبد الجليل قائلاً: “نعاني من نقص في الموارد، لا توجد لدينا وسائل نقل لتوزيع المدخلات الزراعية على القرى، ولا نستطيع تغطية احتياجات المزارعين بالكامل.” ويتحدث عن التعاون مع منظمات دولية لتمويل مشاريع دعم المحاصيل البديلة، مشيرًا إلى أن هذه الجهود لا تزال غير كافية لمواجهة الانتشار الواسع لزراعة القات.

القهوة كرمز ثقافي وإرث وطني

بالنسبة لمحمد فارع، ناشط يمني وخبير في زراعة وتسويق البن، القهوة ليست مجرد محصول تجاري بل هي جزء من هوية اليمن الثقافية والتاريخية. يجلس محمد في مقهى تقليدي بتعز ويتحدث عن أهمية القهوة اليمنية قائلاً: “البن اليمني هو رمز يعرّف اليمن أكثر من أي شيء آخر، ونحن بحاجة لاستعادة هذا الدور.” ويشير محمد إلى أن ميناء المخا التاريخي كان شريان تصدير القهوة اليمنية إلى العالم، وهو ما يجب استعادته عبر تطوير زراعة البن والترويج له محليًا ودوليًا.”

ويرى محمد أن هناك فرصة حقيقية لإعادة البن إلى مكانته إذا تم دعمه بشكل مناسب، قائلاً: “إذا حصل البن اليمني على الدعم الكافي، سيصبح من ركائز الاقتصاد الوطني ويوفر العديد من فرص العمل.”ويشير إلى أن القهوة اليمنية تجمع بين نكهات الريبوسا والأرابيكا، ما يجعلها متميزة في السوق العالمية وذات جودة عالية رغم الظروف الاقتصادية الصعبة.

في ظل الظروف الحالية، يواجه اليمن مفترق طرق، فبينما يحاول البعض التمسك بزراعة البن كرمز للهوية والأصالة، تتوسع زراعة القات على حساب الموارد الطبيعية والأمن الغذائي والصحة العامة إذ يعاني ملايين من اليمنيين الإدمان اليوم وما ينجر عنه من تبعات. وفيما يبقى البن رمزاً للماضي العريق، يصبح القات انعكاساً للتحديات الاقتصادية والاجتماعية المعاصرة. لكن الأمل ما زال موجوداً، إذ تستمر الجهود الفردية والمؤسسية للحفاظ على القهوة اليمنية واستعادة مكانتها. فالحفاظ على البن ليس مجرد معركة من أجل محصول اقتصادي، بل هو نضال من أجل هوية ومستقبل مستدام لليمن وأجياله القادمة.

أخبار متعلقة :