قناة السويس.. شريان الكبرياء المصري . المساء الاخباري

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

  في تصريح جديد يضاف إلى سجل تصريحاته المثيرة للجدل، خرج الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بادعاء لا يخلو من غرابة ولا يفتقر إلى الجرأة حين قال إن قناة السويس لم تكن لتوجد لولا الولايات المتحدة الأمريكية (!)، مطالبًا في سياق تصريحه أن تمر السفن الأمريكية عبرها مجانًا، أسوة بما طالب به أيضًا في قناة بنما.

هذا التصريح الصادم لم يكن مجرد زلة لسان أو رأي شخصي عابر بل كشف عن رؤية استعمارية مضمرة تجاه حقوق الدول وسيادتها، واستخفاف واضح بالحقائق التاريخية الراسخة التي لا تحتاج إلى كثير من البحث لدحض مثل هذه المزاعم الواهية.

قناة السويس، ذلك الشريان المائي الحيوي الذي يربط بين البحرين الأبيض والأحمر، لم تكن يومًا ثمرة قرار أمريكي أو مشروع تبنته الولايات المتحدة، بل كانت فكرة مصرية خالصة حمل لواءها المهندس الفرنسي فرديناند ديليسبس بعد أن نال تفويضًا رسميًا من الخديوي سعيد باشا، حاكم مصر آنذاك، لتبدأ رحلة حفر القناة بمشاركة عشرات الآلاف من العمال المصريين الذين دفعوا دماءهم ثمنا لهذا الإنجاز العملاق.

إنشاء قناة السويس كان نتاج جهد مضنٍ واستنزاف بشري واقتصادي ضخم تحمله الشعب المصري وحده، حيث لقي عشرات الآلاف من العمال حتفهم نتيجة ظروف العمل القاسية والأوبئة التي فتكت بهم في بيئة عمل لم تكن تعرف أدنى معايير السلامة أو الرعاية. كانت القناة، منذ اللحظة الأولى، حلمًا مصريًا ورؤية تحققت بعرق السواعد المصرية وإرادتهم الصلبة، ولم يكن للولايات المتحدة، في ذلك الزمن البعيد، أي دور يذكر لا من قريب ولا من بعيد.

التاريخ لا يرحم ولا يجامل، فمن يعرف أبجديات الجغرافيا السياسية يدرك أن قناة السويس شُقت في زمن كانت فيه الولايات المتحدة لا تزال تحاول ترسيخ مكانتها كدولة ناشئة في الساحة الدولية، بعيدة كل البعد عن مجريات الأحداث الكبرى في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، بل إن نفوذها آنذاك لم يتجاوز حدود قارتها الأمريكية.

ادعاء ترامب يعكس ذهنية استعمارية موروثة ترى العالم بمنظار الهيمنة الأمريكية المطلقة، وتختزل نضال الشعوب وإرادتهم في صفحات زائفة من الإنجازات المنسوبة للغرب، في تجاهل فج لحقائق التاريخ وشواهد الجغرافيا.

ثم إنه من الناحية القانونية، قناة السويس ممر دولي يقع بالكامل تحت السيادة المصرية، وتحكمه اتفاقيات دولية معروفة أبرزها اتفاقية القسطنطينية الموقعة عام ١٨٨٨ التي نظمت قواعد المرور عبر القناة وأكدت حرية الملاحة لجميع السفن دون تمييز في أوقات السلم والحرب. هذه الاتفاقية رسخت منذ أكثر من قرن مبدأ احترام سيادة مصر على القناة، ولم تعترف مطلقًا بأي امتياز خاص لأمريكا أو غيرها من الدول.

إن حديث ترامب عن مرور السفن الأمريكية مجانًا يعبر عن جهل فادح بالقانون الدولي ويعكس عقلية ترى أن الولايات المتحدة فوق الجميع، قادرة أن تفرض إرادتها دون اعتبار لقواعد السيادة الوطنية أو الاتفاقيات الأممية التي تلزم الجميع باحترام حقوق الدول المستقلة.

أما مقارنة ترامب بين قناة السويس وقناة بنما فهي مقارنة عرجاء بكل المقاييس، ذلك أن قناة بنما كانت بالفعل تحت السيطرة الأمريكية لفترة طويلة من الزمن بعد أن فرضت واشنطن نفوذها بالقوة العسكرية والسياسية هناك، وظلت تدير القناة إدارة شبه استعمارية حتى سلمتها لحكومة بنما رسميًا عام ١٩٩٩ بموجب اتفاقيات لاحقة، فيما لم تعرف قناة السويس يومًا أي سيطرة أمريكية أو إدارة أجنبية منذ تأميمها على يد الزعيم الخالد جمال عبد الناصر عام ١٩٥٦.

تأميم قناة السويس كان إعلانًا صريحًا عن نهاية عهد الاستعمار المباشر، وجاء قرار عبد الناصر ليؤكد للعالم أن مصر قادرة على إدارة مصالحها الاستراتيجية بنفسها، مما أدى وقتها إلى اندلاع العدوان الثلاثي البريطاني الفرنسي الإسرائيلي على مصر، في محاولة فاشلة لإعادة السيطرة الأجنبية على القناة، لكن صمود المصريين أفشل المخطط وأجبر العالم أجمع على الاعتراف بالسيادة المصرية الكاملة على قناة السويس.

لذلك، فإن تصريح ترامب لا يتسم فقط بانعدام الدقة التاريخية، بل ينطوي على إهانة غير مقبولة لتاريخ شعوب دفعت دماءها ثمنًا لاستقلال قرارها الوطني. تصريح يكشف عن نزعة صريحة لإعادة صياغة التاريخ وفق رواية أمريكية تمحو نضال الشعوب الأخرى وتحول إنجازاتهم إلى مجرد توابع للسياسة الأمريكية المتعجرفة.

من المؤسف أن تصدر مثل هذه التصريحات عن رئيس لدولة تدعي أنها حامية الديمقراطية والحرية في العالم، فإذا كانت العدالة التاريخية تعني شيئًا في عالم السياسة فإن أقل ما يجب هو الاعتراف بجهود الشعوب وعدم السطو على تاريخهم خدمة لأوهام الهيمنة.

قناة السويس ستظل رمزًا خالدًا لكبرياء المصريين وصمودهم، شاهدة على عبقرية الجغرافيا وبراعة الإنسان المصري في تحدي المستحيل، وستظل مصر هي صاحبة السيادة الكاملة على هذا الشريان المائي الحيوي، مهما حاولت بعض الأصوات النشاز أن تفرض سرديات زائفة أو تقلب الحقائق.

لقد تجاوز العالم اليوم مرحلة الاستعمار التقليدي، وصارت الشعوب أكثر وعيًا بحقوقها وبقيمتها في المنظومة الدولية. لم يعد من الممكن خداع الرأي العام العالمي بتصريحات مستهترة أو محاولات بائسة لطمس ذاكرة الشعوب. التاريخ محفوظ، والشعوب لن تسمح بمصادرة إنجازاتها تحت أي ذريعة.

إن قناة السويس، كما أرادها آباؤنا، ستظل مصرية الهوى والهوية، حرة في قرارها، حاضنة لطموحات الأمة، شاهدة أبدية على أن إرادة الشعوب لا تقهر، وأن من يحاول تزوير التاريخ لا ينال إلا السخرية والخذلان.

اشترك فى النشرة البريدية لتحصل على اهم الاخبار بمجرد نشرها

تابعنا على مواقع التواصل الاجتماعى

السابق الأرض لن تتكلم العبرية . المساء الاخباري
التالى لو مسافر.. اعرف مواعيد القطارات على خط «القاهرة - الإسكندرية» اليوم الأحد - بوابة المساء الاخباري