ننشر لكم من خلال موقعكم " المساء الاخباري"
فساد عقود الشركات الصينية في أوروبا والدول العربية يضر بالبنية الحتية
في يومٍ كان من المفترض أن يمتلئ بالفرح والبهجة، تحوّلت حياة عائلة في صربيا إلى حزن عميق. الطفلتان فالنتينا وسارة، اللتان لم تتجاوزا العاشرة من عمرهما، كانتا تنتظران بفارغ الصبر الاحتفال بعطلة “سانت لوكا” في منزل الجد بمدينة لوزنيكا. كعادتهما، ملأتا قلوب من حولهما بسعادة طفولية بريئة، وضحكاتهما الرنانة عبر الهاتف أبهجت جدتهما، التي كانت تطمئن على تحضيرات سفرهما وتسألهما عن تذاكر القطار. تبادلتا النكات وكانت أصواتهما تضج بالحماس والفرح، ولم يدرك أحد أن تلك المكالمة ستكون آخر مرة تسمع فيها ضحكاتهما.
تلقى أفراد العائلة خبر انهيار سقف محطة السكة الحديد في نوفي ساد بصدمةٍ قاتلة. كان الجد برانكو ماتيتش ينتظر لقاء حفيدتيه كل نهاية أسبوع، حيث يملأن المنزل حياةً وحيوية، لكن هذا الانتظار تحول إلى حداد. يقول الجد والحزن بادٍ في عينيه المثقلتين بذكريات الأيام الماضية. قال بصوت متهدّج: “لقد طلبنا منهما الحذر، وكنا ننتظر وصولهما لنعيش لحظات من السعادة معهما. ولكن حينما علمنا بما حدث، أُصِبنا بصدمة لا توصف. قيل لنا أولاً إنهما في حالة حرجة، لكن لاحقًا، جاء الخبر الذي حطم قلوبنا تمامًا”.
محطة سكة حديد نوفي ساد قبل وبعد حادث أنهيار السقف
وبصوت مليء بالأسى تابع الجد: “اليوم، بدلاً من سماع ضحكاتهما على الشارع، لم تعدا هنا. الشارع بات خاليًا، والأصدقاء اختفوا من المكان. لقد فقد الأهل كلتا الطفلتين، إنها مأساة تفوق الوصف، مأساة تركت فراغًا لا يُسد.”
باشرت النيابة العامة في نوفي ساد تحقيقاً مكثفاً لتحديد الأسباب الدقيقة للكارثة. وتم استجواب عشرات الأفراد، بمن فيهم مسؤولون حكوميون كبار مثل وزير البناء والنقل والبنية التحتية ومديرون من مؤسسات رئيسية مثل معهد حماية الآثار الثقافية في نوفي ساد والسكك الحديدية الصربية. ورغم أنه لم يتم توجيه أي اتهامات جنائية رسمية حتى الآن، إلا أن الضغط الشعبي أدى إلى استقالة الوزير غوران فيسيك.
وتُعد هذه الخطوة اعترافاً بالمسؤولية السياسية ومحاولة لتهدئة غضب الجمهور حول تقدم التحقيق. وأمام هذا الضغط الشعبي ذهب البعض لإلقاء اللوم على إحدى الشركات الصينية التي أُسندت إليها عمليات تجديد المحطة التي جَرت منذ ثلاثة أعوام . ففي الأثناء، ظهرت العديد من المخالفات المتعلقة بعملية التجديد، حيث افتقر المشروع منذ البداية للشفافية في عملية الشراء العام. وتمت إثارة مخاوف بشأن جودة المواد المستخدمة، ومدى الالتزام بالمواصفات، والإشراف على أعمال البناء.
ضحايا الإهمال: عندما تتحول الإنشاءات الصينية إلى كوارث في صربيا والعراق
الحادثة المأساوية السابقة ، والتي راح ضحيتها 14 مواطنا أعادت إلى الأذهان الذكرى الأليمة التي شهدتها العراق تحديدا محافظة السماوة في أغسطس 2023 ، وأثناء عمل أخبار الآن على تحقيق المدارس الصينية في العراق، حيث انهارت إحدى المدارس الصينية حديثة الإنشاء ولحسن الحظ لم تخلف الواقعة أى إصابات وقتها ، ورغم المسافات البعيدة بين موقع كلا الحادثين إلا إنهما يحملان قاسمًا مشتركًا مؤلمًا، ألا وهو الاعتماد على مقاولات صينية أثارت علامات استفهام كبيرة حول معايير السلامة والجودة في مشروعاتها.
في العراق كشف تحقيق أخبار الآن عن وجود أوجه فساد عديدة في صفقة المدارس الصينية بعدما تم الترويج لتلك الصفقة على أنّها نقلة نوعية ستعمل على جلب “الخبرات الصينية الجبّارة” إلى العراق وتطوير المهارات، وتقدّم أحدث التقنيات والمواصفات.
لكن ما أنْ انطلق مشروع المدارس الصينية وبدأت شركات المقاول الثانوي بالعمل، حتّى ظهر بشكل واضح غياب شبه تام للكوادر الصينية، فبعد أشهر من إطلاق المشروع، بدأ يطفو على السطح الكثير من الشكاوى حول المواصفات وطرق بناء تلك المدارس.
وتتشابه ظروف توقيع عقود الشركات الصينية مع الحكومة العراقية والصربية ، ففي العراق أحيطت العقود الموقّعة بين الحكومة العراقية والشركات الصينية – التي تدار من قبل الحكومة الصينية – بسرّية تامة وذلك تماماً كما تجري العادة مع كلّ العقود التي توقعها الصين مع أي دولة أخرى، وتم توقيع نسخ مكرّرة من العقد بشكل منفصل، لكلّ محافظة عقد.
وبعد بحث وتقصٍّ تمكّنت أخبار الآن من الحصول على أحد تلك العقود الموقّعة بين الأمانة العامة لمجلس الوزراء وشركة باور شاينا الصينية، لبناء 44 مدرسة في محافظة كربلاء جنوب غرب بغداد، بكلفة تجاوزت 126 مليار دينار عراقي (86 مليون دولار أميركي)، وهي كلفة مُبالغ فيها بشكل كبير.
دور المقاولين الصينيين في صربيا
وفي صربيا لم يختلف الوضع كثيرا، حيث تم تنفيذ مشروع تجديد محطة السكك الحديدية في نوفي ساد بواسطة الكونسورتيوم الصيني CRIC&CCCC، وهو مشروع مشترك بين شركة السكك الحديدية الدولية الصينية المحدودة وشركة الصين للاتصالات والبناء المحدودة (CCCC). تُعتبر CCCC، وهي شركة مملوكة للدولة، واحدة من أكبر شركات البناء في العالم وتعمل في أكثر من 150 دولة.
ومع ذلك، واجهت CCCC جدلاً كبيرًا في الماضي. ففي عام 2009، تم إدراج الشركة في القائمة السوداء من قبل البنك الدولي بسبب اتهامات بتقديم عروض احتيالية لعقد طريق سريع في الفلبين. ورغم أن CCCC نفت أي مخالفات، مؤكدة امتثالها الكامل لجميع اللوائح، فقد استمر الحظر على تمويل البنك الدولي لمدة ثماني سنوات حتى عام 2017.
علاوة على ذلك، في أغسطس 2020، أضاف مكتب الصناعة والأمن الأمريكي (BIS) عدة فروع تابعة لـ CCCC إلى “قائمة الكيانات”، مما يقيّد تعاملاتها التجارية بسبب أنشطتها التي تعتبر ضد الأمن القومي أو مصالح السياسة الخارجية للولايات المتحدة، وفي عام 2018، أوقفت ماليزيا مشروعين للسكك الحديدية وسط مزاعم بالفساد. كما تم اتهام الشركة بسوء معاملة عمال السكة الحديد في كينيا والانخراط في ممارسات فساد في بنغلاديش.
كيف تحصل الشركات الصينية على عقود في صربيا؟
منذ البداية، أُحيط مشروع إعادة الإعمار في نوفي ساد بقدر كبير من السرية، حيث اتسمت العملية بغياب الشفافية. يقول نيمانيا نيناديتش، مدير برنامج الشفافية في صربيا: “بينما يتفق الجميع على أن إنشاء طرق جديدة وسكك حديدية ومحطات طاقة له فوائد، لم يكن هناك نقاش عام في صربيا حول الاحتياجات والأولويات المحددة لهذه المشاريع. على سبيل المثال، لم تُطرح تساؤلات حول ما إذا كنا بحاجة إلى سكك حديدية فائقة السرعة، أو إذا كان المواطنون يفضلون خيارات أبطأ وأكثر تكلفةً معقولة”.
يُبرز نيناديتش عدة قضايا محيطة بمشاريع البنية التحتية في صربيا، من أبرزها مشكلة الاختيار المسبق للمقاولين، مما يؤدي إلى تجاوز عمليات المناقصات التنافسية. وغالبًا ما يتم ذلك تحت غطاء اتفاقيات بين الحكومات، وهو ما يعطل فعليًا قانون المشتريات العامة في البلاد.
ويضيف نيناديتش: “علاوةً على ذلك، تتمتع الشركات الأجنبية بسلطة اختيار المقاولين المحليين، مما يثير مخاوف بشأن احتمال المحاباة تجاه شركات ذات صلات سياسية”. ويتابع قائلاً إنه يبدو أن القرار بشأن ما سيتم بناؤه، وليس فقط من سيبني، ليس بيد الحكومة الصربية بشكل كامل، بل يتأثر بشدة بالدائنين والمقاولين المستقبليين.
مخالفات بالجملة في العقود الصينية
ظهرت في الأيام الأخيرة العديد من المخالفات المرتبطة بتجديد محطة السكك الحديدية، مما أثار مخاوف بشأن جودة المواد المستخدمة، ومدى الالتزام بالمواصفات الفنية للمشروع، والإشراف على أعمال البناء.
يقول زوران داجيتش، مهندس الجيولوجيا الذي عمل حتى مارس 2023 على مشروع إعادة إعمار مبنى محطة السكك الحديدية في نوفي ساد: “عندما قرر أحدهم إضافة هيكل زجاجي معدني إلى مظلة محطة السكك الحديدية في نوفي ساد دون إجراء أي اختبار لقدرة الحمالات على تحمل هذا الحمل، تم تجهيز المظلة وكأنها مقصلة، وكان سقوطها مسألة وقت فقط.”
وأضاف داجيتش أنه في يوم الحادث كان المعلمون في صربيا مضربين عن العمل، مما أدى إلى عدم ذهاب الأطفال إلى المدرسة، وإلا لكان عدد الضحايا أكبر.
بينما يلقي داجيتش بالمسؤولية على الشركات المحلية المشاركة في أعمال البناء، فإنه يشير أيضًا إلى الشركة الهنغارية المشرفة على المشروع والمستثمر الصيني باعتبارهم المسؤولين النهائيين عن المشروع بأكمله. كما سلط داجيتش الضوء على العديد من المخالفات في الإنفاق وممارسات التعاقد من الباطن التي لاحظها أثناء عمله في المشروع.
يقول داجيتش: “حصلت صربيا على قرض من الصين ووافقت على أن يتم تنفيذ 51% من جميع الأعمال من قبل شركات صينية. وعند الفوترة، يصدر المقاول المحلي فاتورة بمبلغ 250 يورو عن شيء يكلفه في الواقع 100 يورو، وتضيف الشركة الصينية 20%، ثم ترفع الشركة الصينية الرئيسية السعر بنسبة 100% وترسل الفاتورة إلى الوزارة. تقوم الوزارة بدورها بإرسال الأموال إلى سكك حديد صربيا، التي تحولها إلى الشركة الصينية، ولكن لا يتم دفع مستحقات المقاولين المحليين لمدة ستة أشهر. هذه هي طريقة العمل. هذه هي صربيا”.
ويضيف داجيتش أنه بعد الحادث في نوفي ساد، لم يعد واثقًا من جودة أي جزء من أعمال إعادة إعمار سكك الحديد ومحطات السكك من بلغراد إلى سوبوتيتسا، في شمال صربيا، والتي أوكلت إلى الكونسورتيوم الصيني CRIC&CCCC، الذي يضم شركتي China Railway International Co. Ltd و China Communications Construction Company Ltd.
كوارث على الطريق .. سجل المشاريع الصينية في صربيا
لم يكن تجديد محطة نوفي ساد للسكك الحديدية هو المثال الوحيد على مشاركة الصين في البنية التحتية الصربية. فقد كان اتحاد CRIC&CCCC لاعباً رئيسياً في عدة مشاريع بارزة في البلاد وهذا يثير التساؤلات حول كم الكوارث المحتملة جراء تلك المشاريع والتي تجعل حياة المواطنين في خطر كل يوم .
منها: السكك الحديدية بين مركز بلغراد – ستارا بازوفا ونوفي ساد – سوبوتيتسا، الطريق السريع الممر 11 (سورشين – أبرينوفاتش)، قسم الطريق السريع بين نوفا بلغراد وسورشين، طريق ميلوش فيليكي السريع (بريجينا – بوزيغا)، الممر الشمالي حول تشاتشاك، السكك الحديدية بين بانشيفو وسوبوتيتسا.
وفي النهاية، تُظهر الحوادث المتكررة المرتبطة بالمشاريع الصينية في صربيا والعراق نمطاً مقلقاً يشير إلى غياب معايير الجودة والسلامة في بعض هذه الإنشاءات. ورغم الحاجة الملحة للتعاون مع الصين في تنفيذ مشاريع البنية التحتية، إلا أن الأولوية يجب أن تكون دومًا لضمان سلامة وأرواح المواطنين. إن الاستعانة بشركات عالمية أمر مهم، لكن دون التهاون في معايير السلامة والمتانة، فلا قيمة لأي مشروع يُبنى على حساب حياة الناس وأمنهم.